التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٥٨
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } أي جعلنا له مكاناً { فِى ٱلأَرْضِ } أي أرض مصرَ. روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبـير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايتِه، والإشارةِ إلى حصول ذلك من أول الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } ينزل من بلادها { حَيْثُ يَشَاء } ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال عليه السلام: أما السريرُ فأشدُّ به مُلكك، وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك، وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي، فقال: قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر، وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا: ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبـيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بـين الناس { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا } بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَاء } بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } بل نوفّيه بكماله، وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرموقةُ وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر، قيل على سبـيل التوكيد: { وَلأَجْرُ ٱلاْخِرَةِ } أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له { خَيْرٌ } لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل: { لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } تنبـيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل.

{ وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ } ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين { فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي على يوسف وهو في مجلس ولايته { فَعَرَفَهُمْ } لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجالٌ وتشابُه هيئاتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط، وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بـين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم.