{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } أي الغائبِ عن الحس { وَٱلشَّهَـٰدَةِ } أي الحاضرِ له عبر عنهما بهما مبالغةً، وقيل: أريد بالغيب المعدومُ وبالشهادة الموجودُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو خبرٌ بعد خبر، وقرىء بالنصب على المدح وهذا كالدليل على ما قبله من قوله تعالى:
{ { ٱللَّهَ يَعْلَمُ } الخ { ٱلْكَبِيرُ } العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيء دونه { ٱلْمُتَعَالِ } المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزَّهُ عن نعوت المخلوقات. وبعد ما بـين سبحانه أنه عالم بجميع أحوالِ الإنسان في مراتبِ فطرتِه ومحيطٌ بعالَمي الغيب والشهادة بـيّن أنه تعالى عالمٌ بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بـين السرِّ والعلن فقال: { سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ } في نفسه { وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } أظهره لغيره { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } مبالغٌ في الاختفاء كأنه مختفٍ { بِٱلَّيْلِ } وطالبٌ للزيادة { وَسَارِبٌ } بارزٌ يراه كلُّ أحد { بِٱلنَّهَارِ } من سرَب سروباً أي برَز وهو عطفٌ على مَنْ هو مستخفٍ أو على مستخف و(من) عبارةٌ عن الاثنين كما في قوله
تعالَ فإنْ عاهدتَني لا تخونُنينكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ
كأنه قيل: سواءٌ منكم اثنان مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار، والاستواءُ وإن أسند إلى من أسرّ ومن جهَر وإلى المستخفي والساربِ لكنه في الحقيقة مسنَدٌ إلى ما أسّره وما جهرَ به أو إلى الفاعل من حيث هو فاعلٌ كما في الأخيرين، وتقديمُ الإسرارِ والاستخفاءِ لإظهار كمالِ علمِه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدمُ منه بالظواهر وإلا فنِسبتُه إلى الكل سواءٌ لما عرَفته آنفاً. { لَهُ } أي لكلَ ممن أسرّ أو جهر والمستخفي أو السارب { مُعَقّبَـٰتٌ } ملائكةٌ تعتقِبُ في حفظه جمعُ معقّبة من عقّبه مبالغةُ عقَبه إذا جاء على عقِبه كأن بعضَهم يعقُب بعضاً أو لأنهم يعقُبون أقوالَه وأفعاله فيكتُبونه أو اعتقب فأُدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة، أو المرادُ بالمعقّبات الجماعاتُ، وقرىء معاقيبُ جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } من جميع جوانبِه أو من الأعمال ما قدَّم وأخَّر { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفارِ له أو يحفظونه من المضارّ أو يراقبون أحوالَه من أجل أمر الله تعالى، وقد قرىء به وقيل: (من) بمعنى الباء، وقيل: من أمر الله صفةٌ ثانيةٌ لمعقّبات، وقيل: المعقّبات الحرّاسُ والجلاوِزةُ حولَ السلطان يحفَظونه في توهّمه من قضاء الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والعافية { حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الأعمال الصالحةِ أو ملَكاتها التي هي فطرةُ الله التي فطرَ الناس عليها إلى أضدادها { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا } لسوء اختيارِهم واستحقاقِهم لذلك { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } فلا ردَّ له، والعاملُ في (إذا) ما دل عليه الجوابُ { وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } يلي أمرَهم ويدفع عنهم السوءَ الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيـير ما بهم، وفيه دِلالةٌ على أن تخلّف مرادِه تعالى مُحالٌ، وإيذانٌ بأنهم بما باشروه من إنكار البعثِ واستعجال السيئة واقتراحِ الآية قد غيَّروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلولَ غضبِ الله تعالى وعذابِه.