التفاسير

< >
عرض

يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ
٣٩
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ
٤٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤١
-الرعد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَمْحُو ٱللَّهُ مَا يَشَاء } أي ينسخ ما يشاء نسخَه من الأحكام لما تقتضيه الحكمةُ بحسب الوقت { وَيُثَبّتْ } بدلَه ما فيه المصلحةُ أو يبقيه على حاله غيرَ منسوخ أو يثبتُ ما شاء إثباتَه مطلقاً أعمَّ منهما ومن الإنشاء ابتداءً، أو يمحو من ديوان الحفَظةِ الذين ديدنُهم كَتْبُ كلِّ قولٍ وعملِ ما لا يتعلق به الجزاءُ ويثبت الباقيَ، أو يمحو سيئاتِ التائبِ ويثبت مكانها الحسنةَ أو يمحو قَرْناً ويثبت آخرين أو يمحو الفاسداتِ من العالم الجُسماني ويثبت الكائناتِ، أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة، وبه قال ابن مسعود وابنُ عمر رضى الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداءَ وهذا رواه جابر عن النبـي عليه الصلاة والسلام، والأنسبُ تعميمُ كل من المحو والإثبات ليشمل الكل، ويدخلُ في ذلك موادُّ الإنكار دخولاً أولياً وقرىء بالتشديد { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي أصلُه وهو اللوحُ المحفوظُ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوبٌ فيه كما هو.

{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أصلُه إنْ نُرِكَ وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ومن ثمةَ أُلحقت النون بالفعل { بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ } أو وعدناهم من إنزال العذابِ عليهم، والعدولُ إلى صيغة المضارع لحكاية الحالِ الماضيةِ أو نعدهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمةُ من إنذار، وفي إيراد البعض رمزٌ إلى إراءة بعض الموعودِ { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ } أي تبليغُ أحكام الرسالةِ بتمامها لا تحقيقُ مضمون ما بلّغته من الوعيد الذي هو من جملتها { وَعَلَيْنَا } لا عليك { ٱلْحِسَابِ } محاسبةُ أعمالهم السيئةِ والمؤاخذةُ بها أي كيفما دارت الحالُ أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نُرِكَه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغُ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتمّ ما وعدناك من الظفر ولا يُضجِرْك تأخرُه فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفيةِ ثم طيَّب نفسَه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } استفهامٌ إنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزولَ ما وعدناهم أو أشكّوا أو ألم ينظرُوا في ذلك ولم يرَوا { أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ } أي أرضَ الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بأن نفتحها على المسلمين شيئاً فشيئاً ونُلحقَها بدار الإسلام ونُذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاءِ أليس هذا من ذلك؟ ومثلُه قوله عز سلطانه: { { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [الأنبياء: 44] وقوله: ننقُصها حالٌ من فاعل نأتي أو من مفعوله، وقرىء نُنَقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذِن بالاستواء المحتوم والاستيلاءِ العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل: { { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } }. [الفرقان: 23] { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ } ما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال، وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار، وفي الالتفات من التكلم إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربـية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى: { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } اعتراضٌ في اعتراض لبـيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله، وقيل: نصبٌ على الحالية، كأنه قيل: والله يحكمُ نافذاً حكمُه، كما تقول: جاء زيد لا عمامةٌ على رأسه أي حاسراً، والمعقّب من يكُرّ على الشيء فيبطله وحقيقتُه مِن يعقّيه ويقفّيه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقّب لأنه يقفّي غريمَه بالاقتصاء والطلب { وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } فعما قليلٍ يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانينِ العذاب غِبّ ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاءِ حسبما يُرى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سريعُ الانتقام.