التفاسير

< >
عرض

وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ
٤٤
-إبراهيم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ } خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا، وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه، والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب، والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عما هم عليه من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للانزعاج والإيذاء، فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ، أو الناسُ جميعاً فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى: { { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ } [يس: 11] والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً، أي أنذِرهم وخوِّفهم { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة، وقيل: هو يومُ موتِهم معذَّبـين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى، أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ، ويأباه القصرُ السابق { فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي فيقولون، والعدولُ عنه إلى ما عليه النظمُ الكريم للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم، وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر، أو لا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغةُ الفاعلِ، وعلى تقدير كونِ المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضاً فالمعنى الذين ظلموا منهم وهم الكفارُ، أو يقول: كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل.

{ رَبَّنَا أَخّرْنَا } رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا { إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى أمد وحدَ من الزمان قريب { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي الدعوةَ إليك وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ، ففيه إيماءٌ إلى أنه صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى { وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل، والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعاً، وإما باعتبار أن المحْكيَّ ظالمو الأمم جميعاً والمقصودُ بـيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولِها، { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ } على إضمار القولِ معطوفاً على (فيقول) أي فيقال لهم توبـيخاً وتبكيتاً: ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرَاً وجهلاً وسفهاً { مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مَشيداً وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو ما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: { { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل: 38] وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله: حلف بالله ليخرُجَن، وهو أدخلُ في التوبـيخ من أن يقال: ما لنا مراعاةً لحال المُقسِم. ذكر البـيهقيُّ عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون: { { رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } [غافر: 11] فيجيبهم الله تعالى: { { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىّ ٱلْكَبِيرِ } [غافر: 12] ثم يقولون: { { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] فيجيبهم الله تعالى: { { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } [السجدة: 14] الآية، ثم يقولون: { { رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } فيجيبهم الله تعالى: { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } الآية، ثم يقولون: { { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ } [فاطر: 37] فيجيبهم الله تعالى: { { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [فاطر: 37] فيقولون: { { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } [المؤمنون: 106] فيجيبهم الله تعالى: { { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } [المؤمنون: 108] فلا يتكلمون بعدها أبداً، إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ، اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إلٰهَ غيرُك.