التفاسير

< >
عرض

الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ
١
رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ
٢
-الحجر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة الحجر

مكية إلا آية 87 فمدنية وآياتها تسع وتسعون آية

{ الۤرَ } قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعدِ وأخواتِها { تِلْكَ } إشارةٌ إليه أي تلك السورةُ العظيمةُ الشأن { آيَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ } الكاملِ المعهود الغنيِّ عن الوصف به المشهورُ بذلك من بـين الكتب الحقيقُ باختصاص اسمِ الكتاب به على الإطلاق، أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسم خاصَ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزَلِ إذ ذاك إذ هو المتسارِعُ إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدةُ وصف الآياتِ بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ لا على جعله عبارةً عن السورة، إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبةِ من الشهرة حتى يُستغنىٰ عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتها، فلا بد من جعل (تلك) إشارةٌ إلى كل واحد منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى كما ذكر في سورة الرعد { وَقُرْءانٍ } أي قرآنٍ عظيمِ الشأن { مُّبِينٍ } مظهر لما في تضاعيفه من الحِكَم والأحكام أو لسبـيل الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بـين الحق والباطل والحلالِ والحرام، ولقد فُخّم شأنه العظيم مع ما جُمع فيه من وصفي الكتابـية والقرآنية على الطريقتين، إحداهما اشتمالُه على صفات كمالِ جنس الكتبِ الإلٰهيةِ فكأنه كلُّها، والثانيةُ طريقةُ كونِه ممتازاً عن غيره نسيجَ وحدِه بديعاً في بابه خارجاً عن دائرة البـيانِ، وأُخّرت الثانية لما أن الإشارةَ إلى امتيازه عن سائر الكتبِ بعد التنبـيه على انطوائه على كمالات غيرِه من الكتب أدخلُ في المدح كيلا يُتوَهّم من أول الأمرِ أن امتيازَه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصةٍ به من غير اشتمالٍ على نعوت كمالِ سائرِ الكتب الكريمة، وهكذا الكلامُ في فاتحة سورةِ النمل خلا أنه قُدّم فيها القرآنُ على الكتاب لما سيذكر هناك. ولمّا بـيِّن كونُ السورة الكريمةِ بعضاً من الكتاب والقرآنِ لتوجيه المخاطَبـين إلى حُسن تلقّي ما فيها من الأحكام والقِصص والمواعظ شُرع في بـيان ما تتضمّنه فقيل:

{ رُّبَمَا } بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ، وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففاً وبزيادة التاء مشدداً، وفيه ثماني لغات: فتح الراء وضمها مشدداً ومخففاً وبزيادة التاء أيضاً مشدداً ومخففاً، ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم، وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي، ودخولُه على قوله تعالى: { يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقيق الوقوع، فكأنه قيل: ربما وَد الذين كفروا، والمرادُ كفرُهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره، وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى، وتلك الوَدادةُ يومَ القيامة أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين، أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار. روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه أنه قال النبـي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها، فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين" .

وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة، فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام. والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم، وأن المراد بـيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سنن العرب فيما يقصِدون به الإفراط فيما يعكسون عنه، تقول لبعض قوادِ العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: ربَّ فارسٍ عندي، أو لا تعدمُ عندي فارساً وعنده مناقبُ جمّةٌ من الكتائب، وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيد وإبرازَ أنه ممن يقلل ـ لعلو الهمة ـ كثيرَ ما عنده فضلاً عن تكثير القليل، وهذه طريقةٌ إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبةُ ريب فيُصار إليه هضماً للحق، فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليومِ الآخر، وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياءِ، وهذا هو الموافقُ لمقام بـيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعدمِ الاعتدادِ بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ } الآية، أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد، أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه، فكيف إذا كان متيقن الحمد؟ كما في قولهم: لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندِم الإنسان على ما فعل، فإن المقصودَ ليس بـيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به، أو قليلَ الوقوع بل التنبـيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يرجىٰ فيه الندم أو يقِلّ وقوعُه فيه، فكيف بقطعيّ الوقوع؟ وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ، فكيف كثيرُه؟ والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن يفارقوه، فكيف وهم يودّونه كل آن؟ وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عما هم عليه من الكفر، وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأىٰ عن توفية المقام حقَّه.