التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢١
وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
٢٢
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ
٢٣
-الحجر

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِن مّن شَىْء } إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيءٍ في محل الرفع على الابتداء، أي ما من شيء من الأشياء الممكنةِ، فيدخُل فيه ما ذكر دخولاً أولياً { إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } الظرفُ خبرٌ للمبتدأ، وخزائنُه مرتفعٌ به على أنه فاعله لاعتماده، أو خبر له، والجملة خبر للمبتدأ الأول، والخزائنُ جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ، غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس، شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائتةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها، وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه، بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخيـيلية { وَمَا نُنَزّلُهُ } أي ما نُوجِد وما نكوّن شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيء من الأشياء { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي إلا ملتبساً بمقدار معينٍ تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المشيئةُ التابعة لها، لا بما تقتضيه القدرةُ فإن ذلك غيرُ متناهٍ، فإن تخصيصَ كل شيء بصفة معينةٍ وقدرٍ معين ووقتٍ محدود دون ما عدا ذلك، مع استواء الكلِّ في الإمكان واستحقاقِ تعلّقِ القدرة به، لا بد له من حكمة تقتضي اختصاصَ كلَ من ذلك بما اختص به، وهذا البـيانُ سرُّ عدمِ تكوينِ الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة، وهو إما عطفٌ على مقدر أي ننزله وما ننزله الخ، أو حالٌ مما سبق أي عندنا خزائنُ كل شيءٍ، والحال أنا ما ننزِّله إلا بقدر معلوم، فالأول لبـيان سعةِ القدرةِ والثاني لبـيان بالغِ الحِكمة، وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلويِّ إلى العالم السفلي كما في قوله تعالى: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } [الزمر: 6] وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل، وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار.

{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرّيَاحَ } عطفٌ على جعلنا لكم فيها معايشَ، وما بـينها اعتراضٌ لتحقيق ما سبق وترشيحِ ما لحِق أي أرسلنا الرياح { لَوَاقِحَ } أي حواملَ، شُبّهت الريحُ التي تجيء بالخير من إنشاء سحابٍ ماطرٍ بالحامل كما شُبّه بالعقيم ما لا يكون كذلك، أو ملقِّحاتٍ بالشجر والسحابِ، ونظيره الطوائحُ بمعنى المُطيحات في قوله: [الطويل]

[لِيُبْكَ يزيدً ضارعٌ لخصومهِ] ومختبطٌ مما تُطيح الطوائحُ

أي المهلِكات، وقرىء وأرسلنا الريحَ على إرادة الجنس { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآء } بعد ما أنشأنا بتلك الرياحِ سحاباً ماطراً { مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي جعلناه لكم سُقياً وهو أبلغُ من سقيناكموه، لما فيه من الدِلالة على جعل الماءِ معداً لهم ينتفعون به متى شاءوا { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـٰزِنِينَ } نفىٰ عنهم ما أثبته لجنابه بقوله: { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } كأنه قيل: نحن القادرون على إيجاده وخزْنِه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين، وقيل: ما أنتم بخازنين له بعدما أنزلناه في الغُدران والآبارِ والعيون، بل نحن نخزنُه فيها لنجعلَها سقياً لكم مع أن طبـيعةَ الماء تقتضي الغَوْر.

{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيي } بإيجاد الحياةِ في بعض الأجسام القابلةِ لها { وَنُمِيتُ } بإزالتها عنها، وقد يُعمِّم الإحياءُ والإماتة لما يشمل الحيوانَ والنباتَ، وتقديمُ الضميرِ للحصر، وهو إما تأكيدٌ للأول أو مبتدأٌ خبرُه الفعلُ، والجملةُ خبرٌ لإنا، ولا يجوز كونُه ضميرَ الفصل لا لأن اللام مانعةٌ من ذلك كما قيل، فإن النحاة جوزوا دخولَ لام التأكيدِ على ضمير الفصل كما في قوله تعالى: { { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } [آل عمران: 62] بل لأنه لم يقع بـين اسمين { وَنَحْنُ ٱلْوٰرِثُونَ } أي الباقون بعد فناءِ الخلقِ قاطبةً، المالكون للملك عند انقضاءِ زمان المُلك المجازيِّ، الحاكمون الكلَّ أولاً وآخراً، وليس لهم إلا التصرفُ الصُّوريُّ والملكُ المجازي، وفيه تنبـيهٌ على أن المتأخّرَ ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال.