التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ } من تتمة المثَل، جيء بها لبـيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على الخلق أيضاً، أي ولقد جاء أهلَ تلك القرية { رَسُولٌ مّنْهُمْ } أي من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون { فَكَذَّبُوهُ } في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاءُ فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك { وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ } أي حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه، وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد. وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه: { { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] وبه يتم التمثيلُ فإن حالَ أهل مكةَ ـ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً ـ محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذوَ القذة بالقذة من غير تفاوت بـينهما ولو في خصلة فَذّة، كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ ويُتخطف الناسُ من حولهم وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف وكانت تُجبىٰ إليه ثمراتُ كل شيء، ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول، يحار في إدراك سموِّ رتبتِه العقولُ صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبور، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله عليه السلام فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه عليه السلام بقوله: "اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ" ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة خصّت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظامِ المحرقة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب.

هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ النظام، وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } لأهل مكةَ ـ قد ذُكر حالُهم صريحاً بعد ما ذكر مَثلُهم وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من وقعة بدر ـ فبمعزل من التحقيق، كيف لا وقوله سبحانه: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } مفرّعٌ على نتيجة التمثيل وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته، والمعنى وإذ قد استبان لكم حالُ من كفر بأنعم الله وكذّب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولاً وآخِراً فانتهُوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيبِ الرسول عليه السلام كيلا يحِلَّ بكم مثلُ ما حل بهم واعرِفوا حقَّ نِعم الله تعالى وأطيعوا رسولَه عليه السلام في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه { حَلَـٰلاً طَيّباً } وذروا ما تفترون من تحريم البحائرِ ونحوها { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } واعرِفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران، والفاءُ في المعنى داخلةٌ على الأمر بالشكر وإنما أُدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعةً إلى الشكر، فكأنه قيل: فاشكروا نعمةَ الله غِبَّ أكلها حلالاً طيباً، وقد أُدمج فيه النهيُ عن زعم الحرمة، ولا ريب في أن هذا إنما يُتصوّر حين كان العذابُ المستأصِل متوقَّعاً بعدُ وقد تمهّدت مباديه، وبعد ما وقع فمن ذا الذي يُحذَّر ومن ذا الذي يُؤمر بالأكل والشكر؟ وحمْلُ قوله تعالى: { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ } على الإخبار بذلك قبل الوقوعِ يأباه التصدّي لاستصلاحهم بالأمر والنهي، وتوجيهُ خطاب الأمرِ بالأكل إلى المؤمنين ـ مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجّهٌ إلى الكفار، كما فعله الواحديُّ حيث قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم ـ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي تطيعون أو إن صح زعمُكم أنكم تقصِدون بعبادة الآلهة عبادتَه تعالى.