التفاسير

< >
عرض

وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٢
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلَّليلَ وَٱلنهار } يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشِكم ولعقد الثمار وإنضاجها { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل، كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم، وليس المرادُ بتسخيرها لهم تمكينَهم من تصريفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى: { { سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا } [الزخرف: 13] ونظائرِه، بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم، وفي التعبـير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبـين، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على أن ذلك أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه.

{ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرٰتٌ بِأَمْرِهِ } مبتدأٌ وخبرٌ، أي سائرُ النجومِ في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربـيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه، وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحت ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار.

وقرىء برفع الشمسَ والقمرَ أيضاً، وقرىء بنصب النجوم على أنه مفعولٌ أولٌ لفعل مقدر ينبىء عنه الفعلُ المذكور، ومسخراتٌ حالٌ من الكل والعامل ما في (سخّر) من معنى نفعَ أي نفعكم بها حالَ كونها مسخراتٍ لله الذي خلقها ودبرها كيف شاء، أو لما خُلقن له بإيجاده وتقديرِه أو لحكمه، أو مصدرٌ ميميّ جُمع لاختلاف الأنواعِ أي أنواعاً من التسخير، وما قيل من أن فيه إيذاناً بالجواب عما عسى يقال أن المؤثرَ في تكوين النباتِ حركاتُ الكواكب وأوضاعُها بأن ذلك إنْ سَلِم فلا ريب في أنها أيضاً أمورٌ ممكنةُ الذات والصفات، واقعةٌ على بعض الوجوه الممْكِنة فلا بد لها من موجد مخصّصٍ مختار واجبِ الوجود دفعاً للدَّوْر والتسَلْسُل، فمبناه حسبانُ ما ذُكر أدلةً على وجود الصانع تعالى وقدرته واختيارِه، وأنت تدري أنْ ليس الأمرُ كذلك فإنه ليس مما ينازَع فيه الخصمُ ولا يتلعثم في قبوله، قال تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [العنكبوت: 63] الآية، وإنما ذلك أدلةُ التوحيد من حيث إن مَنْ هذا شأنُه لا يتوهم أن يشاركه شيءٌ في شيء فضلاً عن أن يشاركه الجمادُ في الألوهية.

{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي فيما ذكر من التسخير المتعلّق بما ذكر مُجملاً ومفصلاً { لاَيَاتٍ } باهرةً متكاثرة { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وحيث كانت هذه الآثارُ العلويةُ متعددةً ودلالةُ ما فيها ـ من عظيم القدرة والعلم والحكمةِ على الوحدانية أظهرَ ـ جُمع الآياتُ وعُلّقت بمجرد العقلِ من غير حاجةٍ إلى التأمل والتفكر، ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك، فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة، ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ.