التفاسير

< >
عرض

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ
٣٩
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٤٠
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لِيُبَيّنَ لَهُمُ } غايةٌ لما دل عليه بلى من البعث، والضمير لمن يموت إذ التبـيـينُ يعم المؤمنين أيضاً فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لأنه عند معاينةِ حقيقةِ الحال يتضح الأمرُ فيصل علمُهم إلى مرتبة عينِ اليقين، أي يبعثهم ليبـينَ لهم بذلك وبما يحصُل لهم من مشاهدة الأحوالِ كما هي ومعاينتِها بصورها الحقيقيةِ الشأن { ٱلَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } من الحق المنتظمِ لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرعُ المبـين ويدخل فيه البعثُ دخولاً أولياً { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله سبحانه بالإشراك وإنكارِ البعث وتكذيبِ وعده الحق { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَـٰذِبِينَ } في كل ما يقولون لا سيما في قولهم: لا يبعث الله من يموت، والتعبـيرُ عن الحق بالموصول للدِلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلةِ للتبـيـين وما عُطف عليه وما جعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار ورودِه في معرِض الردّ على المخالفين، وإبطال مقالةِ المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويُلجِئهم إلى الإذعان للحق، فإن الكفرة إذا علِموا أن تحقيقَ البعث إذا كان لتبـيـين أنه حق وليعلموا أنهم كانوا كاذبـين في إنكاره كان ذلك أزجرَ لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمةِ على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلّي: لأصَلينّ رغماً لأنفك وإظهاراً لكذبك، ولأن تكررَ الغايات أدلُّ على وقوع الفعل المُغيّا بها وإلا فالغايةُ الأصلية للبعث باعتباره ذاتَه إنما هو الجزاءُ الذي هو الغايةُ القصوى للخلق المُغيّا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يُذكر ذلك لتكرر ذكرِه في مواضعَ أُخَرَ وشهرتِه، وإنما لم يُدرَج علمُ الكفار بكذبهم تحت التبـيـين بأن يقال: وإن الذين كفروا كانوا كاذبـين، بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبـيـينُ الذي هو عبارةٌ عن إظهار ما كان مُبهماً قبل ذلك بأن يخبرَ به فيُختلفَ فيه، كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذِبُ الكافرين فليس من هذا القبـيل فما يتعلق به علمٌ ضروريٌّ حاصل هلم من قِبل أنفسِهم، وقد مر تحقيقُه في سورة التوبة عند قوله تعالى: { { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } [التوبة: 43] وإنما خُص الإسنادُ بهم حيث لم يقل: { وليعلموا أن الكافرين } الآية، لأن علمَ المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضاً.

{ إِنَّمَا قَوْلُنَا } استئناف لبـيان كيفية التكوينِ على الإطلاق إبداءً وإعادةً بعد التنبـيهِ على آنية البعثِ، ومنه يظهر كيفيتُه، فما كافةٌ وقولُنا مبتدأ وقوله: { لِشَىْء } أي أيِّ شيءٍ كان مما عز وهان متعلقٌ به، على أن اللامَ للتبليغ كهي في قولك: قلت له قم فقام، وجعلها الزجاجُ سببـيةً أي لأجل شيءٍ وليس بواضح، والتعبـيرُ عنه بذلك باعتبار وجودِه عند تعلق مشيئتِه تعالى به لا أنه كان شيئاً قبل ذلك { إِذَا أَرَدْنَاهُ } ظرفٌ لقولنا أي وقت إرادتِنا لوجوده { أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ } خبر للمبتدأ { فَيَكُونُ } إما عطفٌ على مقدر يُفصِحُ عنه الفاء وينسحب عليه الكلام، أي فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى: { { فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } [غافر، الآية 68] وإما جوابٌ لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون، وليس هناك قولٌ ولا مقولٌ له ولا أمرٌ ولا مأمورٌ حتى يقال إنه يلزم منه أحدُ المُحالين إما خطابُ المعدومِ أو تحصيلُ الحاصل، أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى: { كُنْ } وليس يلزم منه انحصارُ أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى: { { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] ـ فإن المرادَ بالأمر هو الشأنُ الشاملُ للقول والفعل ومن ضرورة انحصارِه في كلمة كن انحصارُ أسبابه على الإطلاق فيه ـ بل إنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات حسب تعلقِ مشيئتِه تعالى بها وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو عَلَمٌ في ذلك من طاعة المأمورِ المطيعِ لأمر الآمر المُطاع، فالمعنى إنما إيجادُنا لشيء عند تعليق مشيئتِنا به أن نوجدَه في أسرع ما يكون، ولمّا عنه بالأمر الذي هو قولٌ مخصوصٌ وجب أن يُعبّر عن مطلق الإيجادِ بالقول المطلقِ فتأمل، وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالةِ ما يحار فيه العقولُ والألباب، وقرىء بنصب يكون عطفاً على نقول أو تشبـيهاً له بجواب الأمر.