التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَيَجْعَلُونَ } لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مِساس الضرر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف، أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ إليها ما في الفعل من الضمير المستكنْ، وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون (ما) عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ، أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمِهم والمجعولُ له محذوفٌ للعلم بمكانه { نَصِيبًا مّمّا رَزَقْنَـٰهُمْ } من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها { تَٱللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ } سؤالَ توبـيخٍ وتقريع { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } في الدنيا بآلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها، وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيبة إلى الخطاب المنبىءِ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد ما لا يخفى.

{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ } هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله { سُبْحَـٰنَهُ } تنزيهٌ له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيبٌ من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } من البنين، و(ما) مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأٌ والظرفُ المقدمُ خبرُه، والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه، وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات ـ أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين ـ يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ.

{ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } أي أخبر بولادتها { ظَلَّ وَجْهُهُ } أي صار أو دام النهارَ كلَّه { مُسْوَدّا } من الكآبة والحياءِ من الناس، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش { وَهُوَ كَظِيمٌ } ممتلىءٌ حَنقاً وغيظاً.

{ يَتَوَارَىٰ } أي يستخفي { مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ } من أجل سوئِه، والتعبـيرُ عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء { أَيُمْسِكُهُ } أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه { عَلَىٰ هُونٍ } ذل، وقرىء هوانٍ { أَمْ يَدُسُّهُ } يُخفيه { فِى ٱلتُّرَابِ } بالوأد، والتذكيرُ باعتبار لفظ ما، وقرىء بالتأنيث { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد، والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه، ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى: { { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم، الآية 22].