التفاسير

< >
عرض

وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَـٰبِ } متعلقٌ بما يدل عليه الإسقاء من مطلق الإطعامِ المنتظمِ لإعطاء المطعومِ والمشروبِ فإن اللبن مطعومٌ كما أنه مشروبٌ أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما، وقوله تعالى: { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } استئنافٌ لبـيان كُنه الإطعامِ وكشفِه. أو بقوله: تتخذون منه، وتكريرُ الظرفِ للتأكيد، أو خبر لمبتدأ محذوفٍ صفتُه تتخذون أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه، وحَذْفُ الموصوف ـ إذا كان في الكلام كلمةُ مِنْ ـ سائغٌ نحو قوله تعالى: { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] وتذكيرُ الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوفِ أعني العصير أو لأن المراد هو الجنسُ والسَّكَر مصدرٌ سُمّي به الخمرُ، وقيل: هو النبـيذُ، وقيل: هو الطعم { وَرِزْقًا حَسَنًا } كالتمر والدبس والزبـيب والخلّ، والآية إن كانت سابقةَ النزول على تحريم الخمر فدالّةٌ على كراهتها وإلا فجامعةٌ بـين العتاب والمِنّة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً } باهرةً { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يستعملون عقولَهم في الآيات بالنظر والتأمل.

{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلّمها بوجوه لا يعلمها إلا العليمُ الخبـير وقرى بفتحتين { أَنِ ٱتَّخِذِى } أي بأن اتخذي على أنّ أنْ مصدريةٌ ويجوز أن تكون مفسرةً لما في الإيحاء من معنى القول، وتأنيثُ الضمير مع أن النحلَ مذكر للحمل على معنى الجمع أو لأنه جمعُ نحلة، والتأنيثُ لغة أهل الحجاز { مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا } أي أوكاراً مع ما فيها من الخلايا، وقرىء بـيوتاً بكسر الباء { وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } أي يعرِشه الناسُ أي يرفعه من كرْم أو سقف، وقيل: المرادُ به ما يرفعه الناسُ ويبنونه للنحل، والمعنى اتخذي لنفسك بـيوتاً من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرِشونه لك، وإيرادُ حرفِ التبعيض لما أنها لا تُبْنَىٰ في كل جبل وفي كل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها.

{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ } من كل ثمرة تشتهينها حُلوِها ومُرِّها { فَٱسْلُكِى } ما أكلتِ منها { سُبُلَ رَبّكِ } أي مسالكَه التي برَأها بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة النَّوَر المرَّ عسلاً من أجوافك أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ أو فاسلكي راجعةً إلى بـيوتك سبلَ ربك لا تتوعّر عليك ولا تلتبس { ذُلُلاً } جمع ذَلول وهو حال من السبل أي مذللة غيرَ متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك، أو من الضمير في اسلكي أي اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ لبـيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى التي هي موضعُ العبرة بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ { شَرَابٌ } أي عسل لأنه مشروب، واحتج به وبقوله تعالى: { كُلِى } من زعم أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة فتستحيل في بطنها عسلاً ثم تقيءُ ادّخاراً للشتاء، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق وتضعها في بـيوتها، فإذا اجتمع فيها شيءٌ كثيرٌ يكون عسلاً فسّر البطونَ بالأفواه { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أبـيضُ وأسودُ وأصفرُ وأحمرُ حسب اختلاف سنِّ النحل أو الفصلِ أو الذي أخذت منه العسل { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ، مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية، ويجوز كونه للتفخيم، وعن قتادةَ "أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال عليه الصلاة والسلام: اسقِه العسلَ فذهب ثم رجع فقال: قد سقَيتُه فما نفع، فقال: اذهبْ فاسقِه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك فسقاه فبرِىء كأنما أُنْشِط من عِقال" ، وقيل: الضميرُ للقرآن أو لِما بـين الله تعالى من أحوال النحل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "العسلُ شفاءٌ لكل داء، والقرآنُ شفاء لما في الصدور" "فعليكم بالشفاءَين العسلِ والقرآنِ" { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من أعاجيب آثار قدرةِ الله تعالى { لآيَةً } عظيمة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ المشتملةِ على حسن الصنعةِ وصِحة القسمة التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين إلا بآلات دقيقةٍ وأدواتٍ أنيقة وأنظار دقيقة، جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله.