التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرّزْقِ } أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضلَ مما أعطى مماليكَكم { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضّلُواْ } فيه على غيرهم { بِرَآدّى رِزْقِهِمْ } الذي رزقهم الله { عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } على مماليكهم الذين هم شركاؤُهم في المخلوقية والمرزوقية { فَهُم } أي المُلاّك والمماليك { فِيهِ } أي في الرزق { سَوَآء } أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبـير، والفاء للدِلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردًّا مستتبعاً للتساوي، وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً فحيث لا يرضَون بمساواة مماليكِهم لأنفسهم ـ وهم أمثالُهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانُه ـ في شيء لا يختصّ بهم بل يعُمهم وإياهم من الرزق الذي هم أُسوةٌ لهم في استحقاقه، فما بالُهم يشركون بالله سبحانه وتعالى ـ فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبوديةِ الخاصّة بذاته تعالى لذاته ـ بعضَ مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثَلٌ ضُرب لكمال قباحةِ ما فعله المشركون تقريعاً عليهم كقوله تعالى: { { هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ مّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَـٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء } [الروم، الآية 128] الآية { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضةَ عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونَها من عند الله تعالى، أو حيث أنكروا أمثالَ هذه الحجج البالغةِ بعد ما أنعم الله بها عليهم، والباء لتضمين الجحودِ معنى الكفر نحوُ { { وَجَحَدُواْ بِهَا } [النمل: 14] والفاء للعطف على مقدر وهي داخلةٌ في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته، وقرىء تجحدون على الخطاب، أو ليس الموالي برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أُجريه على أيديهم فهم جميعاً في ذلك سواءٌ لا مزيةَ لهم على مماليكهم، ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله؟ فهو ردّ على زعم المفضَّلين أو على فعلهم المؤذِن بذلك أو ما المفضَّلون برادّي بعضِ فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعاً مع أن التفضيلَ ليس إلا ليبلوَهم أيشكرون أم يكفرون، ألا يعرِفون ذلك فيجحدون نعمةَ الله تعالى؟ كأنه قيل: فلم يردوه عليهم، والجملةُ الاسميةُ للدلالة على استمرارهم على عدم الرد. يحكى عن أبـي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما هم إخوانُكم فاكسُوهم مما تلبَسون وأطعِموهم مما تَطعَمون" فما رؤيَ عبدُه بعد ذلك إلا ورداؤُه رداؤُه وإزارُه إزاره من غير تفاوت.

{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من جنسكم { أَزْوٰجاً } لتأنَسوا بها وتقيموا بذلك جميعَ مصالحِكم ويكون أولادُكم أمثالَكم، وقيل: هو خلقُ حواءَ من ضِلْع آدمَ عليه الصلاة والسلام { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُم } وضع الظاهرُ موضعَ المضمر للإيذان بأن المرادَ جعلَ لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره { بنيـن } وبأن نتيجةَ الأزواج هو التوالد { وَحَفَدَةً } جمعُ حافد وهو الذي يسرع في الخِدمة والطاعة، ومنه قولُ القانت: «وإليك نسعى ونحفد» أي جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتِكم. وقيل: المرادُ بهم أولادُ الأولاد، وقيل: البناتُ عبّر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة بأنهن يخْدُمن البـيوت أتمَّ خدمة، وقيل: أولادُ المرأة من الزوج الأول، وقيل: البنون، والعطفُ لاختلاف الوصفين، وقيل: الأختان على البنات، وتأخيرُ المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديمُ المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعَود منفعةِ الجعلِ إليهم إمداداً للتشويق وتقويةً له، أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجاً وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبةٍ لكم بنين وحفَدة { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } من اللذائذ أو من الحلالات، ومن للتبعيض إذ المرزوقُ في الدنيا أنموذجٌ لما في الآخرة { أَفَبِٱلْبَـٰطِلِ يُؤْمِنُونَ } وهو أن الأصنامَ تنفعهم وأن البحائرَ ونحوها حرامٌ والفاء في المعنى داخلةٌ على الفعل وهي للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله الذي شأنُه هذا فيؤمنون بالباطل؟ أو أبعد تحقّقِ ما ذُكر من نعم الله تعالى بالباطل أو أبعد تحققِ ما ذكر من نعم الله تعالى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه { وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهُ } تعالى الفائضةِ عليهم مما ذكر ومما لا يحيط به دائرةُ البـيان { هُمْ يَكْفُرُونَ } حيث يضيفونها إلى الأصنام، وتقديمُ الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغةً أو لرعاية الفواصل، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالِهم للإعراض عنهم وصرفِ الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه.