{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ } الذي آتيناكَهُ { يَهْدِى } أي الناسَ كافةً لا فِرقةً مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى { لِلَّتِى } للطريقة التي { هِىَ أَقْوَمُ } أي أقومُ الطرائقِ وأسدُّها أعني ملةَ الإسلامِ والتوحيدِ، وتركُ ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة والخَصلة ونحوِها مما يعبّر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغِنى عن التصريح بها لغاية ظهورِها لا سيما بعد ذكر الهدايةِ التي هي من روادفها، والمرادُ بهدايته لها كونُه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيلُ الاهتداء بالفعل فإنه مخصوصٌ بالمؤمنين حينئذ { وَيُبَشّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع، وقرىء بالتخفيف { ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } التي شرحت فيه { أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمالِ{ أَجْرًا كَبِيرًا } بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرَ مرات فصاعداً.
{ وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } وأحكامِها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاءِ، وتخصيصُها بالذكر من بـين سائر ما كفروا به لكونها مُعظمَ ما أُمروا بالإيمان به، ولمراعاة التناسبِ بـين أعمالهم وجزائِها الذي أنبأ عنه قولُه عز وجل: { أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وهو عذابُ جهنمَ أي أعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجودَه من الآخرة عذاباً أليماً وهو أبلغُ في الزجر لما أن إتيانَ العذابِ من حيث لا يُحتسب أفظعُ وأفجعُ، والجملةُ معطوفة على جملة يبشّر بإضمار يُخبر، أو على قوله تعالى: { أَنَّ لَهُمْ } داخلةٌ معه تحت التبشير المرادِ به ـ مجازاً ـ مطلقُ الإخبار المنتظمِ للإخبار بالخبر السارِّ وبالنبأ الضارّ فيكون ذلك بـياناً لهداية القرآنِ بالترغيب والترهيب، ويجوز كونُ التبشير بمعناه والمرادُ تبشيرُ المؤمنين ببشارتين: تولّيهم وعقابِ أعدائهم.
وقوله تعالى: { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَـٰنُ بِٱلشَّرّ } بـيانٌ لحال المهديِّ إثرَ بـيان حالِ الهادي، وإظهارٌ لما بـينهما من التباين، والمرادُ بالإنسان الجنسُ أسند إليه حالُ بعضِ أفراده أو حُكي عنه حالُه في بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى الخير الذي لا خيرَ فوقه من الأجر الكبـيرِ ويحذّر من الشر الذي لا شرَّ وراءه من العذاب الأليم، وهو أي بعضٌ منه وهو الكافرُ يدعو لنفسه بما هو الشرُّ من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقةً كدأب مَنْ قال منهم:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال، الآية 32] ومن قال: { { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } [الأعراف، الآية 70] إلى غير ذلك مما حُكي عنهم وإما بأعمالهم السيئة المُفضية إليه الموجبةِ له مجازاً كما هو ديدنُ كلِّهم { دُعَاءهُ بِٱلْخَيْرِ } أي مثلَ دعائِه بالخير المذكور فرضاً لا تحقيقاً فإنه بمعزل من الدعاء به وفيه رمزٌ إلى أنه اللائقُ بحاله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ } أي مَن أُسند إليه الدعاءُ المذكورُ من أفراده { عَجُولاً } يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعامياً عن ضرره أو مبالغاً في العجلة يستعجل العذابَ وهو آتيه لا محالة، ففيه نوعُ تهكمٍ به، وعلى تقدير حمل الدعاءِ على أعمالهم تُحمل العَجوليةُ على اللَّجّ والتمادي في استيجاب العذابِ بتلك الأعمال، وعلى الثاني أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى ما هو خيرٌ وهو في بعضِ أحيانه كما عند الغضبِ يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شرٌّ، وكان الإنسان بحسب جِبِلّته عجولاً ضجِراً لا يتأسَّى إلى أن يزول عنه ما يعتريه. روي "أنه عليه الصلاة والسلام دفع إلى سَوْدةَ أسيراً فأرخت كتافه رحمةً لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أُخبر به النبـيُّ عليه الصلاة والسلام قال: اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، فقال عليه الصلاة السلام: إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي عذاباً رحمةً" أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيراً، وكان الإنسان عجولاً غيرَ متبصّر لا يتدبر في أموره حقَّ التدبر ليتحقق ما هو خيرٌ حقيقٌ بالدعاء به وما هو شرٌّ جديرٌ بالاستعاذة منه.