التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
٧٠
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧١
-الإسراء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } قاطبةً تكريماً شاملاً لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامةِ المعتدلةِ والتسلط على ما في الأرض والتمنُّعِ به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارة، ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بـيده، وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بـين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بـيده { وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } على الدوابّ والسفن، من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء، وأنت خبـيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صُنعِهم.

{ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ } في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبـيح { عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا } وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام { تَفْضِيلاً } عظيماً فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تميـيزٍ فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ، وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل، وليس فيه دَلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بـيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بـين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه. إن قيل: أيُّ حاجةٍ إلى تعيـين ما فيه التفضيلُ بعد بـيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا: لا بد من تعيـينه البتةَ، إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلاً بل هم أدنى من كل دنيءٍ حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ كَـٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف: 179] وقولُه تعالى: { { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال، الآية 55].

{ يَوْمَ نَدْعُواْ } نُصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرفٌ لما دل عليه قولُه تعالى: { وَلاَ يُظْلَمُونَ } وقرىء بالياء على البناء للفاعل والمفعول ويدعو بقلب الألف واواً على لغة من يقول في أفعى أفعو، وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى: { { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } [ الأنبياء، الآية 3] أو ضميرَه وكلَّ بدلاً منه، والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاةِ بها فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفىٰ بتقديره كما في يدعى { كُلَّ أُنَاسٍ } من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ، وهذا شروعٌ في بـيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا { بِإِمَـٰمِهِمْ } أي بمن ائتمّوا به من نبـي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل: بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال: يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر، أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا، وقيل: الإمامُ جمعُ أم كُخف وخِفاف، والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم إجلالُ عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا { فَمَنْ أُوتِىَ } يومئذ من ألئك المدعوّين { كِتَـٰبَهُ } صحيفةَ أعماله { بِيَمِينِهِ } إبانةٌ لخطر الكتابِ المُؤْتىٰ وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمرِ بما في مطاويه { فَأُوْلَـئِكَ } إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذاناً بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليلٍ، أو إشعاراً بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ، وما فيه من الدِلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور { يَقْرَءونَ كِتَـٰبَهُمْ } الذي أوتوه على الوجه المبـين تبجّحاً بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً { فَتِيلاً } أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارة.