التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
-الكهف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ثُمَّ بَعَثْنَـٰهُمْ } أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبـيهة بالموت { لِنَعْلَمَ } بنون العظمة، وقرىء بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ، وأياً ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا بجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتميـيز، أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى: { { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [آل عمران: 144] وقوله تعالى: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [آل عمران: 140] ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً، فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب، وكذا مداولةُ الأيامِ بـين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتميـيزُ، وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتميـيزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية، وإنما الذي ترتب عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل بحمل النظمِ الكريم على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب، وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً، بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى: { { فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [البقرة، الآية 258] وهو المرادُ هٰهنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم.

{ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي { أَحْصَىٰ } أي أضبط { لِمَا لَبِثُواْ } أي للبثهم { أَمَدًا } أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبـير ويتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بـينة لكفارهم، وقد اقتُصر هٰهنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدّي إليها، وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال: بعثناهم بعْثَ من يريد أن يعلم الخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [آل عمران، الآية 140] على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يريد أن يعلم مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت، إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد، فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر.

هذا وقد قرىء ليُعْلِمَ مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي في موقع المفعولِ الثاني فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً، وفي موقع المفعولين إن جعل يقينياً أي ليُعلِمَ الله الناسَ أيَّ الحزبـين أحصى الخ، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبـين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً بعد ملك، وقيل: كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهر، فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم: ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي، والجارُّ والمجرور حالٌ منه قدمت عليه لكونه نكرةً. وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المنفصلةُ العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةً عما سبق من السنين.

ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضاً فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسببه يكون له أمدٌ لا محالة، لكن ليس المرادُ به ما يقع عليهم غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءً كما مر، بل باعتبار كميّتِه المنفصلةِ معارضةً له بسبب عروضِها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى، والفرقُ بـين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المنقسمةِ إلى السنين فهو مجموعُ ثلاثِمائةٍ وتسعِ سنين، وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمةِ إليها أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلاثِمائةِ، وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ، وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها. هذا تقديرُ كون «ما» في قوله تعالى: { لِمَا لَبِثُواْ } مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عدداً، فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه، وقيل: اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمداً نصبٌ على التميـيز، وأما ما قيل من أنّ أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ: { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلاً ماضياً يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك، وادعاءُ أن مجيءَ أفعلِ التفضيلِ من المزيد عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقاً، وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبـيلِ، وامتناعُ عمله إنما هو في غير التميـيز من المعمولات، وأما أن التميـيزَ يجب كونُه فاعلاً في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال: أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزناً أو تقطيعاً، أو يقالَ: إن العاملَ في أمداً فعلٌ محذوفٌ يدل عليه المذكورُ أي يُحصي لما لبثوا أمداً كما في قوله: [الطويل]

[أكَدَّ وأَحْمَى للحقيقة منهمُ]وأضرَبُ منا بالسيوف القوانسا

وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر، فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصودُ بالاختبار إظهارَ أفضلِ الحزبـين وتميـيزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما، ومن البـيّن أن لا تحقُّقَ له أصلاً وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأساً فهو فعل ماضٍ قطعاً، وتوهُم إيذانِه بأن غايةَ البعثِ هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم.