التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً
٣٩
فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً
٤٠
أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً
٤١
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً
٤٢
-الكهف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ } أي هلاّ قلت عندما دخلتَها، وتقديمُ الظرف على المحضَّض عليه للإيذان بتحتّم القولِ في آن الدخولِ من غير ريث لا للقصر { مَا شَاء ٱللَّهُ } أي الأمرُ ما شاء الله أو ما شاء الله كائنٌ على أن ما موصولةٌ مرفوعةُ المحلِّ، أو أيَّ شيء شاء الله كان على أنها شرطيةٌ منصوبةٌ والجوابُ محذوفٌ، والمرادُ تحضيضُه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وبأن ما تيسر لك من عِمارتها وتدبـيرِ أمرِها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره عن النبـي صلى الله عليه وسلم: "من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوةَ إلا بالله لم يضُرَّه" { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } أنا إما مؤكدٌ لياء المتكلمِ أو ضميرُ فصْلٍ بـين مفعولي الرؤيةِ إن جُعلت عِلْميةً، وأقلَّ ثانيهما، وحالٌ إن جُعلت بصَريةً فيكون أنا حينئذ تأكيداً لا غيرُ لأن شرطَ كونِه ضميرَ فصلٍ توسطُه بـين المبتدأ والخبر أو ما أصلُه المبتدأُ والخبر، وقرىء أقلُّ بالرفع خبراً لأنا والجملةُ مفعولٌ ثانٍ للرؤية أو حالٌ وفي قوله تعالى: { وَوَلَدًا } نُصرةٌ لمن فسر النفرَ بالولد.

{ فعسَىٰ رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } هو جوابُ الشرط والمعنى إن ترنِ أفقرَ منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلِبَ ما بـي وما بك من الفقر والغنى فيرزُقني لإيماني جنةً خيراً من جنتك ويسلُبَك لكفرك نعمتَه ويُخْرِب جنتك { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } هو مصدرٌ بمعنى الحِساب كالبُطلان والغفران أي مقداراً قدره تعالى وحسَبه، وهو الحكمُ بتخريبها، وقيل: عذابَ حُسبانٍ وهو حسابُ ما كسبت يداه، وقيل: مَراميَ جمعُ حُسبانة وهي الصواعقُ. ومساعدة النظمِ الكريم فيما سيأتي للأولين أكثر { مِّنَ ٱلسَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } مصدر أريد به المفعولُ مبالغةً أي أرضاً ملساء يُزْلَق عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات.

{ أَوْ يُصْبِحَ } عطف على قوله تعالى: { فَتُصْبِحَ }، وعلى الوجه الثالث على يرسلَ { مَاؤُهَا غَوْرًا } أي غائراً في الأرض أُطلق عليه المصدرُ مبالغة { فَلَن تَسْتَطِيعَ } أبداً { لَهُ } أي للماء الغائرِ { طَلَبًا } فضلاً عن وجدانه وردِّه.

{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أُهلك أموالُه المعهودةُ من جنتيه وما فيهما، وأصلُه من إحاطة العدوِّ، وهو عطفٌ على مقدر، كأنه قيل: فوقع بعضُ ما توقع من المحذور وأُهلك أمواله، وإنما حُذف لدِلالة السباقِ والسياقِ عليه كما في المعطوف عليه بالفاء الفصيحة { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } ظهراً لبطن وهو كنايةٌ عن الندم، كأنه قيل: فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي في عِمارتها من المال، ولعل تخصيصَ الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختياريةِ ولأن ما أنفق في عِمارتها كان مما يمكن صيانتُه عن طوارق الحدَثانِ وقد صرفه إلى مصالحها رجاءَ أن يتمتعَ به، وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردَى، ولذلك قال: ما أظن أن تبـيدَ هذه أبداً، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاكُ ندم على ما صنع بناءً على الزعم الفاسدِ من إنفاق ما يمكن ادخارُه في مثل هذا الشيءِ السريع الزوال. { وَهِىَ } أي الجنةُ من الأعناب المحفوفةِ بنخل { خَاوِيَةٍ } ساقطةٌ { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أي دعائمها المصنوعةِ للكروم لسقوطها قبل سقوطِها، وتخصيصُ حالها بالذكر دون النخل والزرعِ إما لأنها العُمدةُ وهما من متمماتها، وإما لأن ذكرَ هلاكِها مغنٍ عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مُشيَّدةٌ بعروشها فهلاكُ ما عداها بالطريق الأولى، وإما لأن الإنفاقَ في عمارتها أكثرُ، وقيل: أرسل الله تعالى عليها ناراً فأحرقها وغار ماؤُها { وَيَقُولُ } عطف على يقلّب أو حالٌ من ضميره أي وهو يقول: { يٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا } كأنه تذكر موعظةَ أخيه وعلم أنه إنما أُتيَ من قِبل شِرْكِه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يُصبْه ما أصابه. قيل: ويحتمل أن يكون ذلك توبةً من الشرك وندَماً على ما فرَط منه.