التفاسير

< >
عرض

وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً
١٣
وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
١٤
وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
١٥
وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
-مريم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا } عطف على الحُكم وتنوينُه للتفخيم وهو التحنّنُ والاشتياق، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافيةِ، أي وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه كائنة من جنابنا أو رحمةً في قلبه وشفقةً على أبويه وغيرِهما { وَزَكَوٰةً } أي طهارةً من الذنوب أو صدقةً تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصدق على الناس { وَكَانَ تَقِيّا } مطيعاً متجنباً عن المعاصي.

{ وَبَرّا بِوٰلِدَيْهِ } عطف على تقياً أي بارًّا بهما لطيفاً بهما محسناً إليهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } متكبراً عاقاً لهما أو عاصياً لربه.

{ وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ } من الله عز وجل { يَوْمَ وُلِدَ } من أن يناله الشيطانُ بما ينال به بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } من عذاب القبر { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } من هول القيامةِ وعذاب النار.

{ وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ } كلامٌ مستأنَفٌ خوطب به النبـيُّ عليه الصلاة والسلام وأُمر بذكر قصة مريمَ إثرَ قصةِ زكريا لما بـينهما من كمال الاشتباكِ، والمرادُ بالكتاب السورةُ الكريمة لا القرآنُ إذ هي التي صُدّرت بقصة زكريا المستتبعةِ لذكر قصتها وقصصِ الأنبـياء المذكورين فيها أي واذكر للناس { مَرْيَمَ } أي نَبأَها فإن الذكرَ لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى: { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } ظرف لذلك المضافِ لكن لا على أن يكون المأمورُ به ذكرَ نبئها عند انتباذِها فقط، بل كلَّ ما عُطف عليه وحُكيَ بعده بطريق الاستئنافِ، داخلٌ في حيز الظرف متممٌ للنبأ. وقيل: بدلُ اشتمال من مريم على أن المراد بها نبأُها فإن الظروفَ مشتملةٌ على ما فيها، وقيل: بدلُ الكل على المرادَ بالظرف ما وقع فيه، وقيل: إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك: أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدلُ اشتمالٍ لا محالة وقوله تعالى: { مّنْ أَهْلِهَا } متعلق بانتبذت وقوله: { مَكَاناً شَرْقِياً } مفعولٌ له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيانِ المترتبِ وجوداً واعتباراً على أصل معناه العاملِ في الجار والمجرور، وهو السرُّ في تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكاناً شرقياً من بـيت المقدِس أو من دارها لتتخلّى هنالك للعبادة، وقيل: قعدت في شرُفة لتغتسل من الحيض محتجبةً بحائط أو بشيء يستُرها وذلك قوله تعالى: { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بـيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد، فبـينما هي في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضيءِ الوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } أي جبريلَ عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقَّه، وقرىء بفتح الراء لكونه سبباً لما فيه روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربـين في قوله تعالى: { { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [الواقعة: 89] { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئاً، وقيل: تمثل في صورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بـيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يُلقىٰ إليها من كلماته تعالى، إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه. وأما ما قيل من أن ذلك لتهيـيج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بـيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى: { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ } فإنه شاهذٌ عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلاً عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة، نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها، ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءه، وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى: { إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي.