التفاسير

< >
عرض

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ } تجريدٌ للخطاب عن النبـي صلى الله عليه وسلم وتخصيصٌ له بالمؤمنين، وأمْ منقطعة [ومعناها] بل، فيها الإضرابُ والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايلِ المساهلةِ منهم في ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك، ومعنى الهمزةِ إنكارُ وقوعِ الإرادة منهم واستبعادُه لما أن قضية الإيمان وازعةٌ عنها، وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلَّقها للمبالغة في إنكاره واستبعادِه ببـيان أنه مما لا يصدُر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدوره نفسِه والمعنى بل أتريدون { أن تسألوا } وأنتم مؤمنون { رَسُولَكُمُ } وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غيرَ واثقين في أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضيةُ علمِكم بشؤونه سبحانه قيل: لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بـيانَ تفاصيلِ الحكم الداعية إلى النسخ وقيل: سأله عليه السلام قومٌ من المسلمين أن يجعل لهم (ذاتَ أنواط) كما كانت للمشركين وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلّقون عليها المأكول والمشروب، وقوله تعالى: { كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ } مصدرٌ تشبـيهيّ أي نعت لمصدر مؤكدٍ محذوف وما مصدرية أي سؤالاً مُشْبَهاً بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له: اجعلْ لنا إلٰهاً وأرِنا الله جهرةً وغيرَ ذلك، ومقتضىٰ الظاهرِ أن يقال: كما سألوا موسى لأن المشبَّه هو المصدرُ من المبني للفاعل أعني سؤالية المخاطبـين لا من المبني للمفعول أعني مسؤوليةَ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يُشبَّه بمسؤولية موسى عليه السلام فلعله أريد التشبـيهُ فيهما معاً ولكنه أوجز النظم فذكر في جانب المشبه السائليةَ وفي جانب المشبَّه به المسؤولية واكتُفي بما ذكر في كل موضع عما تُرك في الموضع الآخر كما ذكر في قوله تعالى: { { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } [يونس، الآية 107] وقد جُوِّز أن تكون (ما) موصولةً على أن العائد محذوفٌ أي كالسؤال الذي سُئِله موسى عليه السلام. وقوله تعالى: { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ بسُئِل جيءَ به للتأكيد، وقرىء سِيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بـين بـين { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ } أي يخترْه ويأخذْه لنفسه { بِٱلإيمَـٰنِ } بمقابَلتِه بدلاً منه وقرىء ومن يُبْدلْ من أَبدل وكان مقتضىٰ الظاهر أن يقال: ومن يفعلْ ذلك أي السؤالَ المذكورَ أو إرادتَه وحاصلُه ومن يترُكِ الثقةَ بالآيات البـينةِ المنْزلةِ بحسب المصالحِ التي من جملتها الآياتُ الناسخةُ التي هي خيرٌ محضٌ وحقٌّ بحتٌ واقترح غيرَها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ ٱلسَّبِيلِ } أي عدَلَ وجارَ من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصِل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تيه الهوىٰ وتردىٰ في مهاوي الردىٰ. وإنما أوُثر على ذلك ما عليه النظمُ الكريمُ للتصريح من أول الأمرِ بأنه كفرٌ وارتدادٌ وأن كونَه كذلك أمرٌ واضح غنيٌ عن الإخبار به بأن يقال: ومن يفعلْ ذلك يكفُرْ، حقيقٌ بأن يُعدَّ من المسلّمات ويُجعلَ مقدَّماً للشرْطية رَوْماً للمبالغة في الزجر والإفراط في الردع، و(سواءَ السبـيل) من باب إضافةِ الوصفِ إلى الموصوف لقصد المبالغة في بـيان قوة الاتصافِ كأنه نفسُ السواءِ على منهاج حصولِ الصورة في الصورة الحاصلة، وقيل: الخطابُ لليهود حين سألوا أن يُنزِّل الله عليهم كتاباً من السماء وقيل للمشركين حين قالوا: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعًا } الخ فإضافةُ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوةِ، ومعنى تبدّلِ الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان تركُ صَرْفِ قدرتِهم إليه مع تمكنِّهم من ذلك وإيثارُهم للكفر عليه.