التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ } إنكارٌ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغبُ عن ملته التي هي الحقُّ الصريحُ والدين الصحيحُ أي لا يرغب عن ملته الواضحةِ الغراء { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي أذلّها واستمهَنها واستخَفّ بها، وقيل: خسِر نفسه وقيل: أوبقَ أو أهلكَ أو جهَّلَ نفسَه. قال المبرِّدُ وثعلبٌ: سفِه بالكسر متعدٍّ وبالضم لازم، ويشهد له ما ورد في الخبر: «أنْ تَسْفَه الحَقَّ وتَغْمِصَ النَّاسَ» وقيل: معناه ضل من قِبَل نفسِه وقيل: أصلُه سفِه نفسُه بالرفع فنصب على التميـيز نحو غَبِن رأيُه وألِمَ رأسُه ونحو قوله: [الوافر]

ونأخُذُ بعده بذِناب عيشٍأجبِّ الظهرِ ليس له سَنامُ

وقـولـه: [الوافر]

وما قومي بثعلبةَ بن سعدٍولا بفزارةَ الشُّعْرِ الرقابا

ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحدٌ من العقلاء فقد بالغ في إذلالِ نفسه وذلتها وإهانتِها حيث خالف بها كلَّ نفس عاقلة. روي أن عبد اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمةَ ومُهاجِراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعثٌ من ولد إسماعيل نبـياً اسمُه أحمدُ فمن آمن به فقد اهتدى ورشَد ومن لم يؤمن فهو ملعون فأسلم سلمةُ وأبـي مهاجر فنزلت { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَـٰهُ فِي ٱلدُّنْيَا } أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بـين سائر الخلق وأصله اتخاذُ صفوة الشيء كما أن أصلَ الاختيارِ اتخاذُ خيرِه واللامُ جواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى: { وَإِنَّهُ فِى ٱلأخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، معطوفٌ عليها داخلٌ في حيز القسم مؤكدٌ لمضمونها مقرِّرة لما تقرِّره ولا حاجة إلى جعله اعتراضاً آخرَ أو حالاً مقدرة فإن مَنْ كان صفوةً للعباد في الدنيا مشهوداً له بالصلاح في الآخرة كان حقيقاً بالاتباع لا يَرغبُ عن ملته إلا سفيهٌ أو متسفّهٌ أذل نفسَه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل، وإيثارُ الاسمية لما أن انتظامه في زُمرة صالحي أهلِ الآخرة أمرٌ مستمرٌ في الدارين لا أنه يحدُث في الآخرة، والتأكيدُ (بإن) واللام لما أن الأمورَ الأخروية خفية عند المخاطبـين فحاجتُها إلى التأكيد أشدُّ من الأمور التي تُشاهد آثارُها، وكلمة (في) متعلقةٌ بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديمُ بعض الصلة عليها على أنه قد يُغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله: [الراجز]

ربـيتُه حتى إذا تَمْعَدداكان جزائي بالعصا أن أُجلَدا

أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالحٌ في الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أي أعني في الآخرة نحو لك بعدَ رَعْياً وقيل: هي متعلقةٌ باصطفيناه على أن في النظم الكريم تقديماً وتأخيراً تقديرُه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.