التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ } توجيه للخطاب إلى المؤمنين بـين الخطابـين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأيـيد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلك إشارةٌ إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل، وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بـين الحاضر والمنقضي دون تعيـين المخاطبـين، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجةِ المشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزه به وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، والكاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ وأصلُ التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ، واعتُبرت الكاف مُقحَمَةً للنكتة المذكورةِ فصار نفسَ المصدر المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم { أُمَّةً وَسَطًا } لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ، والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل، واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي: [البسيط]

كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَتبها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا

فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بـينها وبـين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ، وكالشجاعة التي طرفاها التهوّرُ والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجريرةُ والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها، ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها. وسُوّي فيه بـين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها، وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد إلى الجانبـين، فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بـين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية، ومن ضرورة كونِه وسطاً بـين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بـين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ } بأن الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبـيةِ السَّبُعية، والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا: { { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة، الآية 269] كان المتّصِفُ بها واقفاً على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبـين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاوياً بالشرائط الشهادةَ عليهم. رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبـياءِ عليهم السلام فيطالبهم الله تعالى بالبـينة وهو أعلم، إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتىٰ بأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدون فيقول الأممُ: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطقِ على لسان نبـيِّه الصادقِ، فيؤتىٰ عند ذلك بالنبـي صلى الله عليه وسلم ويُسأل عن حال أمته فيزكِّيهم ويشهَد بعدالتها وذلك قولُه عز قائلاً: { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وكلمةُ الاستعلاءِ لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمِن، وقيل: لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا فيما لا يُقبل فيه الشهادةُ إلا من العدول الأخيار، وتقديمُ الظرف للدلالة على اختصاص شهادتِه عليه السلام بهم { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } جُرِّد الخطابُ للنبـي صلى الله عليه وسلم رمزاً إلى أن مضمونَ الكلام من الأسرار الحقيقةِ بأن تُخَصَّ معرفتُه بها عليه السلام وليس الموصولُ صفةً للقِبلة بل هو مفعولٌ ثانٍ للجعل، وما قيل من أن الجعلَ تحويلُ الشيء من حالة إلى أخرى فالملتبسُ بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك: جعلتُ الطينَ خَزَفاً فينبغي أن يكون المفعولُ الأول هو الموصولَ والثاني هو القِبلةَ فهو كلامٌ صناعي ينساق إليه الذهن بحسب النظرِ الجليلِ، ولكنَّ التأملَ اللائقَ يهدي إلى العكس فإن المقصودَ إفادتُه أنه ليس جعلَ الجهة قبلةً لا غيرُ كما يفيده ما ذُكر بل هو جعلُ القبلةِ المحققةِ الوجود هذه الجهةَ دون غيرِها والمرادُ بالموصولِ هي الكعبةُ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها أولاً ثم لما هاجرَ أُمِر بالصلاة إلى الصخرة تألّفاً لليهود، أو هي الصخرةُ لِما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن قِبلته عليه السلام بمكة كانت بـيتَ المقدس إلا أنه كان يجعلُ الكعبةَ بـينه وبـينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يرادَ بالقبلة الأولى الكعبةُ، وأما الصخرةُ فيتأتّىٰ إرادتُها على الروايتين، والمعنى على الأول وما جعلنا القِبلة الجهةَ التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك الشيء من الأشياء إلا لنمتحنَ الناسَ أي نعاملهم معاملةَ من يمتحنُهم ونعلم حينئذ { مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } في التوجّه إلى ما أُمر به من الدين أو القِبلة والالتفاتِ إلى القبلة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباعِ { مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } يرتدُّ عن دين الإسلامِ أو لا يتوجه إلى القِبلة الجديدة أو لنعلمَ الآن من يتبعُ الرسولَ ممن لا يتبعُه وما كان لعارضٍ يزول بزواله، وعلى الأول ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابتَ على الإسلام والناكصَ على عَقِبـيه لقلقه وضعفِ إيمانِه، والمرادُ بالعلم ما يدور عليه فلَكُ الجزاءِ من العلم الحالي أي ليتعلّق علمُنا به موجوداً بالفعلِ، وقيل: المرادُ علمُ الرسولِ عليه السلام والمؤمنين، وإسنادُه إليه سبحانه لما أنعم على خواصه وليتميَّزَ الثابتَ على المتزلزل، كقوله تعالى: { { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } [الأنفال، الآية 37] فوضَع العلمَ موضِعَ التميـيزِ الذي هو مسبَّبٌ عنه، ويشهد له قراءةُ ليُعْلَمَ على بناء المجهول من صيغة الغَيبة، والعلمُ إما بمعنى المعرفة أو متعلقٌ بما في «مَنْ» من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لنعلم من يتبعُ الرسولَ متميِّزاً ممن ينقلب على عقبـيه { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي شاقة ثقيلة، وإنْ هي المخففةُ من الثقيلة دخَلتْ على ناسخ المبتدأ والخبر، واللامُ هي الفارقةُ بـينها وبـين النافية كما في قوله تعالى: { { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } [الإسراء، الآية 108] وزعم الكوفيون أنها نافية واللام بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبـيرة، والضميرُ الذي هو اسم كان راجعٌ إلى ما دل عليه قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } [سورة البقرة، الآية: 143] من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أو القِبلة وقرىء لكبـيرةٌ بالرفع على أن كان مزيدة كما في قوله: [الوافر]

[فكَيْفَ إذا رأيتَ ديار قومٍ]وإخوانٍ لنا كانوا كرامِ

وأصله وإنْ هي لكبـيرةٌ كقوله: إن زيدٌ لمنطلقٌ { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } أي إلى سرِّ الأحكام الشرعية المبنيةِ على الحِكمَ والمصالح إجمالاً وتفصيلاً وهم المهديّون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباعِ الرسول عليه السلام: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ } أي ما صحَّ وما استقام له أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ وقيل: أيمانَكم بالقِبلة المنسوخةِ وصلاتَكم إليها لما رُوي أنه عليه السلام لما توجّه إلى الكعبة قالوا: كيف حالُ إخوانِنا الذين مضَوْا وهم يصلون إلي بـيت المقدس؟ فنزلت. واللام في ليُضيعَ إما متعلقةٌ بالخبر المقدر لكان كما هو رأيُ البَصْرية وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يُضيعَ الخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليس في توجيهه إلى نفسه، وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية، ولا يقدح في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجر في عملها، وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له، فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحُهم، والباءُ متعلقةٌ برؤوف وتقديمُه على رحيم مع كونه أبلغَ منه لما مر في وجه تقديمِ الرحمٰن على الرحيم، وقيل: الرحمة أكثرُ من الرأفة في الكمية والرأفةُ أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية من الآلام، والرحمةُ إيصالُ النعمة مطلقاً وقد يكون مع الألم كقطعِ العضوِ المتأكّل، وقرىء رَؤُفٌ بغير مد كندس.