التفاسير

< >
عرض

وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } بـيانٌ لمحاسِنِ الحُكم المذكور على وجهٍ بديعٍ لا تُنال غايتُه حيث جُعل الشيءُ محلاً لضِدِّه، وعُرِّف القصاص ونُكِّر الحياةُ ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلُغه الوصفُ وذلك لأن العلمَ به يردَعُ القاتلَ عن القتل فيتسبَّب لحياةِ نفسَيْن، ولأنهم كانوا يقتُلون غيرَ القاتل والجماعةَ بالواحد فتثورُ الفتنةُ بـينهم، فإذا اقتُصَّ من القاتل سلِم الباقون فيكون ذلك سبباً لحياتهم، وعلى الأول فيه إضمارٌ وعلى الثاني تخصيصٌ وقيل: المرادُ بالحياة هي الأُخروية فإن القاتلَ إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخَذْ به في الآخرة، والظَّرْفان إما خبرانِ (لحياةٌ) أو أحدُهما خبرٌ والآخَرُ صِلةٌ له أو حالٌ من المستكنِّ فيه وقرىء في القَصَصِ أي فيما قُصَّ عليكم من حُكم القتل حياةٌ أو في القرآن حياة أو في القرآنِ حياةٌ للقلوب { يأُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ } أي ذوي العقولِ الخالصةِ عن شَوْب الأوهام، خوطبوا بذلك بعد ما خُوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطاً لهم إلى التأمل في حِكمة القصاص { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي تتقون أنفسَكم من المساهلة في أمره والإهمالِ في المحافظة عليه والحُكمِ به والإذعانِ له، أو في القصاص فتكُفّوا عن القتل المؤدِّي إليه { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } بـيانٌ لحكمٍ آخَرَ من الأحكام المذكورة { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي حضر أسبابُه وظهرَ أماراتُه أو دنا نفسُه من الحضور، وتقديمُ المفعول لإفادة كمال تمكنِ الفاعلِ عند النفسِ وقت ورودِه عليها { إِن تَرَكَ خَيْرًا } أي مالاً وقيل: مالاً كثيراً لما رُوي عن علي رضي الله عنه أن مولىً له أراد أن يوصِيَ وله سبعُمائة درهمٍ فمنعه وقال: قال الله تعالى: { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [البقرة، الآية 180] وإن هذا لشيء يسيرٌ فاترُكْه لعيالك. وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أراد الوصيةَ وله عيالٌ وأربعُمائة دينارٍ فقالت: ما أرى فيه فضلاً. وأراد آخرُ أن يوصِيَ فسألته كم مالُك؟ فقال: ثلاثةُ آلافِ درهم قالت: كم عيالُك؟ قال: أربعة قالت: إنما قال الله تعالى: إنْ ترك خيراً وإن هذا لشيءٌ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأقْرَبِينَ } مرفوعٌ بكُتِبَ، أُخِّر عما بـينهما لما مر مراراً، وإيثارُ تذكيرِ الفعلِ مع جواز تأنيثِه أيضاً للفصل أو على تأويل أن يوصِيَ، أو الإيصاءُ، ولذلك ذُكّر الضميرُ في قوله تعالى: { { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [البقرة، الآية 181] وإذا ظرفٌ محضٌ والعاملُ فيه كُتب لكن لا من حيث صدورُ الكتْب عنه تعالى بل من حيث تعلُّقُه بهم تعلقاً فِعلياً مستتبِعاً لوجوب الأداءِ كما يُنبىء عنه البناءُ للمفعول وكلمةُ الإيجاب، ولا مساغَ لجعل العامل هو الوصيةُ لتقدّمه عليها، وقيل: هو مبتدأ خبرُه للوالدين، والجملةُ جوابُ الشرط بإضمار الفاءِ كما في قوله: [البسيط]

مَنْ يفعلِ الحسناتِ الله يشكُرُها [لا يذهبُ العُرفُ عِندَ اللهِ والناسِ]

ورد بأنه صحّ فمن ضرورةِ الشعر ومعنى كُتب فُرض، وكان هذا الحكمُ في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ، بقوله عليه السلام: "إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقَّه ألا لا وصيةَ لوارثٍ" فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ عند الحنفيةِ على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث، وإنما الحديثُ مُبـيّنٌ لجهة نسخِها ببـيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربـين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبـيـين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيـين لمقادير أنصبائِهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال: { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي بالعدْل، فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبـيـين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيـينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما تُعرِب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصديرُها بكلمة التنبـيه، إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل مِنْ أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد، وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عز وجل من توريثِ الوالدَيْن والأقرَبـين بقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } [النساء، الآية 11] أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصىٰ به الله تعالى عليهم - بمعزلٍ من التحقيق وكذا ما قيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيـينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بـياناً للأنصباء بلفظ الإيصاءِ فُهم منها بتنبـيه النبـي صلى الله عليه وسلم أن المرادَ منه هذه الوصيةُ التي كانت واجبة، كأنه قيل: إن الله تعالى أوصىٰ بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى النسخِ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ، فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف، فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى: { { فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } [النساء، الآية 11. وسورة التوبة، الآية 60] ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد، وقولُه تعالى: { حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } مصدرٌ مؤكد أي حَقَّ ذلك حقاً.