التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } نزلت في أصحاب السريةِ لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } كرَّر الموصولَ مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما مستقلانِ في تحقيق الرجاء { أُوْلَـٰئِكَ } المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلة المذكورة { يَرْجُونَ } بما لهم من مبادىءِ الفوزِ { رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } أي ثوابه، أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً { رَّحِيمٌ } يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ، والجملةُ اعتراضٌ محقَّقٌ لمضمون ما قبلها.

{ يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } تواردَتْ في شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة: { { وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل، الآية 67] فطفِق المسلمون يشربونها، ثم إن عمرَ، ومُعاذاً ونفراً من الصحابة رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين قالوا: أَفْتِنا يا رسولَ الله في الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية، فشرِبها قومٌ وتركها آخرون، ثم دعا عبدُ الرحمٰن بنُ عَوْف ناساً منهم، فشرِبوا فسكِروا، فأما أحدُهم فقرأ: { { قُلْ يا أَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون، الآية: 2] فنزلت { { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } [النساء، الآية: 43]، فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبـي وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ شعراً فيه هجاءٌ للأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه شجة موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم بـين لنا في الخمر بـياناً شافياً" فنزلت { { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } [المائدة، الآية: 90] إلى قوله تعالى: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة، الآية: 91] فقال عمرُ رضي الله عنه: «انتهينا يا رب» وعن علي رضي الله عنه: «لو وقعت قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه». وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما: «لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم تَتْبَعْني» وهذا هو الإيمانُ والتقىٰ حقاً رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير العنب ما غلىٰ واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتميـيزَ كأنها نفسُ السَّتر، كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي تحجزهما. والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع يقال: يسَرْته إذا قمَرْته، واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ المال بـيُسرٍ من غير كدّ و(لا) تعب، وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له، وصفتُه أنه كانت لهم عشرةُ قِداح هي الأزلامُ والأقلام: الفذُّ والتوأمُ والرقيبُ والجَلْس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلّىٰ والمَنيح والسَفيح والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها عشرةَ أجزاء، وقيل: ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة وهي المنيحُ والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللجَلْس أربعة وللنافس خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يبـيعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمّون من لا يدخُل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكـــم وهاتين اللعبتين المشؤمتين فإنهما مياسِـــرُ العجم" وعن علي كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر، وعن ابن سيرين كلُّ شيء فيه خطرٌ فهو من الميسر. والمعنى يسألونك عن حُكمهما وعما في تعاطيهما.

{ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي في تعاطيهما ذلك لما أن الأولَ مسلبةٌ للعقول التي هي قطبُ الدين والدنيا مع كون كلَ منهما مَتلفةً للأموال { وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ } من كسب الطرَب واللذة ومصاحبةِ الفتيان وتشجيعِ الجبان وتقوية الطبـيعة، وقرىء إثمٌ كثير بالمثلثة، وفي تقديم بـيانِ إثمِه ووصفُه بالكِبَر وتأخيرِ ذكر منافعِه مع تخصيصها بالناس من الدِلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطقَ به قوله تعالى: { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي المفاسدُ المترتبةُ على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه وقرىء أقربُ من نفعهما.

{ ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } عطفٌ على يسألونك عن الخمر الخ عطفَ القصة على القصة، أي أيُّ شيءٍ ينفقونه قيل: هو عمْرو بنُ الجموح أيضاً سأل أولاً من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال فلما بُـيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانياً من أي أصنافها نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه فقيل: { قُلِ ٱلْعَفْوَ } بالنصب أي ينفقون العفوَ أو أنفقوا العفوَ وقرىء بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولةٌ، صلتُها ينفقون أي الذي ينفقونه العفوُ قال الواحدي: أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة، وقال القفال: العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول قتادةَ وعَطاءٍ والسدي، وكانت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يكسِبون المالَ ويُمسكون قدرَ النفقة ويتصدقون بالفضل. ورُوي أن رجلاً أتى النبـي صلى الله عليه وسلم ببـيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال: خذها مني صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مراراً حتى قال عليه السلام مغضباً: هاتِها فأخذها فحذَفها عليه حَذْفاً لو أصابته لشجته ثم قال: «يأتي أحدُكم بماله كلِّه يتصدق به ويجلِس يتكفّف الناسَ إنما الصدقةُ عن ظهر غنى» { كَذٰلِكَ } إشارةٌ إلى مصدر الفعل الآتي، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو درجة المشارِ إليه في الفضل مع كمال تميّزِه وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، وإفرادُ حرف الخطاب مع تعدد المخاطبـين باعتبار القَبـيل أو الفريق، أو لعدم القصد إلى تعيـين المخاطب كما مر، ومحلُه النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مثلَ ذلك البـيان الواضحِ الذي هو عبارةٌ عما مضىٰ في أجوبة الأسئلة المارّة { يُبيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَـٰتِ } الدالةَ على الأحكام الشرعية المذكورة لا بـياناً أدنى منه، وقد مر تمامُ تحقيقِه في قوله تعالى: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة، الآية 143] وتبـيـين الآياتِ تنزيلُها ظاهرةَ الفحوى، واضحةَ المدلول لا أنه تعالى يبـيّنها بعد أن كانت مشْتبهةً ملتبسةً، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } لكي تتفكروا فيها وتقِفوا على مقاصدها وتعملوا بما في تضاعيفها.