التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٢٣٠
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٣١
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَإِن طَلَّقَهَا } أي بعد الطلقتين السابقتين { فَلاَ تَحِلُّ } هي { لَهُ مِن بَعْدُ } أي من بعد هذا الطلاقِ.

{ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي حتى تتزوج غيره فإن النكاحَ أيضاً يُسند إلى كلَ منهما. وتعلَّقَ بظاهره من اقتصر على العقد والجمهورُ على اشتراط الإصابة لما رُوي "أن امرأة رُفاعةَ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رُفاعةَ طلقني فبتَّ طلاقي وإن عبد الرحمٰن بن الزبـير تزوجني، وإن ما معه مثلُ هُدْبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة قالت: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: لا إلا أن تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ" وبمثله تجوز الزيادةُ على الكتاب وقيل: النكاحُ بمعنى الوطء والعقدُ مستفاد من لفظ الزوج، والحكمةُ من هذا التشريع الردعُ عن المسارعة إلى الطلاق والعودُ إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها، والنكاحُ بشرط التحليل مكروهٌ عندنا، ويُروى عدمُ الكراهة فيما لم يكن الشرطُ مصرَّحاً به وفاسدٌ عند الأكثرين لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" { فَإِن طَلَّقَهَا } أي الزوجُ الثاني { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي على الزوج الأول والمرأة { أَن يَتَرَاجَعَا } أن يرجِعَ كلٌّ منهما إلى الآخَر بالعقد { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } التي أوجب مراعاتِها على الزوجين من الحقوق، ولا وجهَ لتفسير الظنِّ بالعلم لما أن العواقبَ غيرُ معلومةٍ ولأن (أن) الناصبة للتوقع المنافي للعلم ولذلك لا يكاد يقال: علمتُ أن يقومَ زيد.

{ وَتِلْكَ } إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا { حُدُودَ ٱللَّهِ } أي أحكامُه المعيّنة المحمية من التعرض لها بالتغيـير والمخالفة { يُبَيّنُهَا } بهذا البـيان اللائق أو سيبـينها فيما سيأتي بناءً على أن بعضَها يلحقُه زيادةُ كشفٍ وبـيانٌ بالكتاب والسنةَ، والجملة خبرٌ ثانٍ عند من يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى: { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه، الآية 20] أو حالٌ من حدود الله والعامل معنى الإشارة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يفهمون وتخصيصُهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغِ لما أنهم المنتفعون بالبـيان أو لأن ما سيلحق بعضَ النصوص من البـيان لا يقف عليه إلا الراسخون في العلم. { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي آخِرَ عدَّتِهن فإن الأجل كما ينطلِقُ على المدة ينطلق على منتهاها، والبلوغُ هو الوصولُ إلى الشيء وقد يقال: للدنو منه اتساعاً وهو المراد هٰهنا لقوله عز وجلَّ: { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إذ لا إمكان للإمساك بعد تحققِ بلوغِ الأجلِ أي فراجعوهن بغير ضِرارٍ أو خلُّوهن حتى ينقضِيَ أجلُهن بإحسان من غير تطويل، وهذا كما ترى إعادةٌ للحكم في بعض صورِه اعتناءً بشأنه ومبالغةً في إيجاب المحافظةِ عليه { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } تأكيدٌ للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيحٌ لمعناه وزجزٌ صريحٌ عما كانوا يتعاطَوْنه أي لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن «كأنْ يترُكَ المعتدةَ حتى إذا شارفت انقضاءَ الأجلِ يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوِّل عليها العدةَ فنُهي عنه» بعدما أُمر بضده لما ذكر، وضِراراً نُصب على العِلّية أو الحالية أي لا تمسكوهن للمضارة أو مضارّين واللام في قوله: { لّتَعْتَدُواْ } متعلقة بضراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء.

{ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي ما ذكر من الإمساك المؤدّي إلى الظلم، وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلته في الشر والفساد { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } في ضمن ظلمِه لهن بتعريضها للعقاب { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ } المنطويةَ على الأحكام المذكورة أو جميعَ آياتهِ وهي داخلة فيها دخولاً أولياً { هُزُواً } أي مَهُزوًّا بها بأن تُعرِضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة على ما في تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمن لم يجِدَّ في الأمر: أنت هازىءٌ، كأنه نُهي عن الهُزْؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أي جِدُّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعَوْها حقَّ رعايتها وإلا فقد أخذتموها هُزُؤاً ولعباً. ويجوز أن يراد به النهيُ عن الإمساك ضراراً فإن الرجعةَ بلا رغبة فيها عملٌ بموجب آياتِ اللَّهِ تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهُزْؤ، وقيل: كان الرجل ينكِحُ ويطلِّقُ ويُعتِقُ ثم يقول: إنما كنت ألعَبُ فنزلت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ جِدُّهن جدٌ وهزلُهن جدٌّ النكاحُ والطلاقُ والعِتاق" { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } حيث هداكم إلى ما فيه سعادتُكم الدينية والدنيوية أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها، والظرفُ متعلق بمحذوف وقع حالاً من نعمة الله أي كائنةً عليكم أو صفةً لها على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلته أي الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاءُ التأنيث لأنه مبنيٌّ عليها كما في قوله: [الطويل]

فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌعِقابَك قد كانوا لنا كالموارد

{ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم } عطفٌ على { نِعْمَتَ ٱللَّهِ } وما موصولة حذف عائدُها من الصلة و(مِنْ) في قوله عز وجل: { مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ } بـيانية أي من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغايُر الوصفين كما في قوله: [المتقارب]

إلى الملكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمام[وليث الكتيبة في المزدحم]

وفي إبهامه أولاً ثم بـيانه من التفخيم ما لا يخفى، وفي إفراده بالذكر مع كونه أولَ ما دخل في النعمة المأمورِ بذكرها إبانةٌ بخطره ومبالغةٌ في الحث على مراعاة ما ذكر قبله من الأحكام { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي بما أنزل، حال من فاعل أَنزل أو من مفعوله أو منهما معاً { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } فلا يخفى عليه شيءٌ مما تأتون وما تذرون فيؤاخذُكم بأفانينِ العقاب.