التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ تِلْكَ } إشارة إلى ما سلف من حديث الألوفِ وخبرِ طالوتَ على التفصيل المرقومِ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المشارِ إليه { آيات ٱللَّهِ } المنزلةُ من عنده تعالى، والجملةُ مستأنفة، وقوله تعالى: { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } أي بواسطة جبريلَ عليه السلام إما حالٌ من الآيات والعاملُ معنى الإشارة وإما جملةٌ مستقلة لا محل لها من الإعراب { بِٱلْحَقِّ } في حيز النصبِ على أنه حالٌ من مفعول نتلوها أي ملتبسةً باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأربابِ التواريخ لما يجدونها موافقةً لما في كتبهم، أو من فاعلِه أي نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب، أو من الضمير المجرور أي ملتبساً بالحق والصدق { وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي من جملة الذين أُرسلوا إلى الأمم لتبليغ رسالاتِنا وإجراءِ أوامرِنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملةَ لا تجري بـيننا وبـين غيرهم فهي شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة والسلام إثرَ بـيانِ ما يستوجبها، والتأكيدُ من مقتضيات مقامِ الجاحدين بها.

{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ } استئنافٌ فيه رمزٌ إلى أنه عليه الصلاة والسلام من أفاضلِ الرسلِ العظامِ عليهم الصلاة والسلام إثرَ بـيانِ كونِه من جملتهم والإشارةُ إلى الجماعة الذين من جملتهم النبـيُّ صلى الله عليه وسلم، فاللام في المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم وقيل: إلى الذين ذُكرت قِصصُهم في السورة وقيل: إلى الذين ثبت علمُه صلى الله عليه وسلم بهم { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } في مراتب الكمالِ بأن خصَصْناه حسبما تقتضيه مشيئتُنا بمآثِرَ جليلةٍ خلا عنها غيرُه { مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } تفصيلٌ للتفصيل المذكور إجمالاً أي فضله بأن كلمهُ تعالى بغير سفيرٍ وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمهُ تعالى ليلةَ الخِيْرة وفي الطور وقرىء { كَلِّـمَ ٱللَّهِ } [البقرة، الآية 253] بالنصب وقرىء كالَمَ الله من المكالمة فإنه كلّم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه، ويؤيده كليمُ الله بمعنى مكالمِه، وإيرادُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربـية المهابةِ، والرمزِ إلى ما بـين التكليم والرفعِ وبـين ما سبَقَ من مطلق التفضيل وما ألحق من إيتاء البـيناتِ والتأيـيدِ بروحِ القدسِ من التفاوت { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ } أي ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين في معارجِ الفضل بدرجات قاصيةٍ ومراتبَ نائيةٍ، وتغيـيرُ الأسلوب لتربـية ما بـينهم من اختلاف الحالِ في درجات الشرفِ، والظاهرُ أنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه الإخبارُ بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك في قوة بعضهم فإنه قد خُصَّ بالدعوة العامة والحُجج الجمة والمعجزاتِ المستمرة والآياتِ المتعاقبة بتعاقُب الدهور والفضائلِ العلمية والعمليةِ الفائتة للحصر، والإبهامُ لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلَمُ الفردُ الغنيُّ عن التعيـين وقيل: إنه إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حيث خصه تعالى بكرامة الخُلّة وقيل: إدريسُ عليه السلام حيث رفعه مكاناً علياً وقيل: أوُلو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.

{ وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البيِّنات } الآياتِ الباهرةَ والمعجزاتِ الظاهرةَ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمة والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات، أو الإنجيلَ { وَأَيَّدْنَـٰهُ } أي قويناه { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة كقولك: رجلُ صِدْقٍ وهي روحُ عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه السلام لم تضمَّه الأصلابُ والأرحامُ الطوامث وقيل: بجبريلَ وقيل: بالإنجيلِ كما مر، وإفرادُه عليه السلام بما ذكر لرد ما بـين أهلِ الكتابـين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط، والآيةُ ناطقة بأن الأنبـياءَ عليهم السلام متفاوتةُ الأقدار، فيجوزُ تفضيلُ بعضِهم على بعض ولكن بقاطع { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } أي جاءوا من بعد الرسلِ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله عدمَ اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلَهم متفقين على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمة الحقِّ فمفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المعروفة وقيل: تقديرُه ولو شاء هدى الناس جميعاً ما اقتتل الخ وليس بذاك { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ } من جهة أولئك الرسلِ { ٱلْبَيِّنَـٰتُ } المعجزاتُ الواضحةُ والآياتُ الظاهرة الدالةُ على حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم، الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم المؤدِّي إلى الاقتتال (فمِنْ) متعلقةٌ باقتتل { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ } استدراك من الشرطية أُشير به إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضع نقيض مقدّمها المنتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وُضع فيه الاختلافُ موضعَ نقيضِ المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتالَ ناشىء من قِبَلهم لا من جهته تعالى ابتداءً كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدمَ اقتتالِهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً { فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ } بما جاءت به أولئك الرسلُ من البـينات وعمِلوا به { وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بذلك كفراً لا ارعواءَ له عنه فاقتضت الحِكمةُ عدمَ مشيئتِه تعالى لعدم اقتتالِهم فاقتتلوا بموجبِ اقتضاءِ أحوالِهم { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ } عدمَ اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضاً من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة { مَا ٱقْتَتَلُواْ } وما نبَض منهم عِرقُ التطاول والتعادي لما أن الكل تحت ملَكوتِه تعالى، فالتكريرُ ليس للتأكيد كما ظُن بل للتنبـيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجباً لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أي من الأمور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بـيّن على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيراً كان أو شراً إيماناً كان أو كفراً.