التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٢٦٧
ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦٨
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يــٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ } بـيانٌ لحال ما يُنفَقُ منه إثرَ بـيانِ أصلِ الإنفاق وكيفيته، أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيادِه لقوله تعالى: { { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران، الآية 92] { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ ٱلأَرْضِ } أي من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادِن فحذف المضافُ لدِلالة ما قبله عليه { وَلاَ تَيَمَّمُواْ } بفتح التاء أصله ولا تتيمّموا، وقرىء بضمها، وقرىء ولا تأَمّموا والكلّ بمعنى القصد أي لا تقصِدوا { ٱلْخَبِيثَ } أي الرديءَ الخسيسَ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تُذكرُ موصوفاتها { مِنْهُ تُنفِقُونَ } الجارُّ متعلق بتنفقون والضميرُ للخبـيث والتقديمُ للتخصيص والجملةُ حال من فاعل تيمّموا أي لا تقصِدوا الخبـيثَ قاصرين الإنفاقَ عليه أو من الخبـيث أي مختصًّا به الإنفاقُ، وأيًّا ما كان فالتخصيصُ لتوبـيخهم بما كانوا يتعاطَوْنه من إنفاق الخبـيثِ خاصة لا لتسويغ إنفاقِه مع الطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشَفِ التمر وشِرارِه فنُهوا عنه وقيل: متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من الخبـيث، والضميرُ للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولَين على طريقة قوله: [الرجز]

[فيها خطوطٌ من سوادٍ وَبلق]كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ

أو للثاني، وتخصيصُه بذلك لما أن التفاوتَ فيه أكثرُ، وتنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصِدوا الخبـيث كائناً من المال أو مما كسبتم، ومما أخرجنا لكم منفِقين إياه وقوله تعالى: { وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ } حال على كل حال من واو تنفقون أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه { إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } أي إلا وقتَ إغماضِكم فيه وهو عبارةٌ عن المسامحة بطريق الكِناية أو الاستعارة يقال: أغمضَ بصرَه إذا غضّه، وقرىء على البناء للمفعول على معنى إلا أن تُحمَلوا على الإغماض وتدخُلوا فيه أو توجَدوا مغمِضين، وقرىء وتَغمِضوا وتَغمُضوا بضم الميم وكسرها وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [البقرة، الآية: 267] ثم استُؤنف فقيل: على طريقة التوبـيخ والتقريع: منه تنفِقون والحالُ أنكم لا تأخُذونه إلا إذا أغمَضْتم فيه، ومآلُه الاستفهامُ الإنكاريُّ فكأنه قيل: أمِنْه تنفقون الخ { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ } عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم. وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبـيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبـيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه { حَمِيدٌ } مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل: حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه. { الشَّيْطَـٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } الوعدُ هو الإخبارُ بما سيكون من جهة المخبِر مترتباً على شيء من زمان أو غيره يُستعمل في الشر استعمالَه في الخير قال تعالى: { ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الحج، الآية 72] أي يعدُكم في الإنفاق الفقرَ ويقول: إن عاقبة إنفاقِكم أن تفتقِروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يُضِف مجيءَ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزّله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته، أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة وقرىء بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين { وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَاء } أي بالخَصلة الفحشاء أي ويغريكم على البخل ومنه الصدقاتُ إغراءُ الآمرِ للمأمور على فعل المأمور به والعربُ تسمي البخيلَ فاحشاً قال طرفةُ بن العبد: [الطويل]

أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفيعقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ

وقيل بالمعاصي والسيِّئات { وَٱللَّهُ يَعِدُكُم } أي في الإنفاق { مَغْفِرَةً } لذنوبكم والجارُّ في قوله تعالى: { مِنْهُ } متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لمغفرةً مؤكدةٌ لفخامتها التي أفادها تنكيرُها أي مغفرةً أيَّ مغفرةٍ كائنةً منه عز وجل { وَفَضْلاً } صفتُه محذوفةٌ لدلالة المذكور عليها كما في قوله تعالى: { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران، الآية 174] ونظائرِه أي وفضلاً كائناً منه تعالى أي خلَفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا، وفيه تكذيبٌ للشيطان، وقيل: ثواباً في الآخرة { وَٱللَّهُ وٰسِعٌ } قدرةً وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلافِ ما تنفقونه { عَلِيمٌ } مبالِغٌ في العلم فيعلم إنفاقَكم فلا يكاد يُضيع أجرَكم أو يعلمُ ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخُلْف في الوعد، والجملةُ تذيـيلٌ مقررٌ لمضمون ما قبله.