التفاسير

< >
عرض

وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ
٤٣
أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وأقيموا الصلاة وآتوا ٱلزَّكَوٰةَ } أي صلاةَ المسلمين وزكاتَهم فإن غيرَهما بمعزلٍ من كونه صلاةً وزكاةً، أمرهم الله تعالى بفروعِ الإسلام بعد الأمرِ بأصوله { وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } أي في جماعتهم فإن صلاةَ الجماعةِ تفضُل صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة، لما فيها من تظاهُر النفوسِ في المناجاة، وعُبِّر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود وقيل: الركوعُ والخضوعُ والانقيادُ لما يُلزِمُهم الشارعُ. قال الأضبطُ بنُ قُريع السعدي: [المنسرح]

لا تحقِرَنّ الضعيفَ عَلَّك أنتركَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ

{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرّ } تجريدٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى بعضهم بعد توجيهِه إلى الكل والهمزةُ فيها تقريرٌ مع توبـيخٍ وتعجيبٍ والبِرُّ التوسُّعُ في الخير من البَرّ الذي هو الفضاءُ الواسعُ يتناول جميعَ أصنافِ الخيرات، ولذلك قيل البر ثلاثة: بِرٌّ في عبادة الله تعالى، وبِرٌّ في مراعاة الأقارب، وبِرٌّ في معاملة الأجانب.

{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } أي تتركونها من البر كالمَنْسيات عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلتْ في أحبارِ المدينة كانوا يأمُرون سراً من نصَحُوه باتباع النبـي صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه طمعاً في الهدايا والصِلاتِ التي كانت تصلُ إليهم من أتباعهم وقيل: كانوا يأمُرون بالصدقة ولا يتصدقون، وقال السدي: أنهم كانوا يأمرون الناسَ بطاعة الله تعالى وينهَوْنَهم عن معصيته وهم يتركون الطاعة ويُقْدِمون على المعصية، وقال ابن جريج: كانوا يأمرون الناسَ بالصلاة والزكاة وهم يتركونهما ومدارُ الإنكارِ والتوبـيخِ هي الجملةُ المعطوفة دون ما عُطفت هي عليه.

{ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَـٰبَ } تبكيتٌ لهم وتقريعٌ كقوله تعالى: { { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة، الآية 42] أي والحالُ أنكم تتلون التوراةَ الناطقةَ بنعوته صلى الله عليه وسلم الآمرةِ بالإيمان به أو بالوعد بفعل الخيرِ والوعيدِ على الفسادِ والعنادِ وتركِ البِر ومخالفةِ القولِ العملَ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أتتلونه فلا تعقِلون ما فيه، أو قبحَ ما تصنعون حتى ترتدعوا عنه، فالإنكارُ متوجِّهٌ إلى عدم العقل بعد تحققِ ما يوجبه فالمبالغة من حيث الكيفُ، أو ألا تتأملون فلا تعقلون، فالإنكارُ متوجِّه إلى كلا الأمرين، والمبالغةُ حينئذ من حيث الكم، والعقلُ في الأصل المنعُ والإمساك، ومنه العِقالُ الذي يُشدُّ به وظيفُ البعير إلى ذراعه لحبسِه عن الحَراك. سُمّي به النورُ الروحاني الذي به تُدرِك النفسُ العلومَ الضرورية والنظريةَ لأنه يحبِسُه عن تعاطي ما يقبُح ويعقِله على ما يحسُن، والآية كما ترى ناعيةٌ على كل من يعِظُ غيرَه ولا يتعظ بسوء صنيعِه وعدمِ تأثره وإن فِعْلَه فعلُ الجاهلِ بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، والمرادُ بها كما أشير إليه حثُّه على تزكية النفس والإقبالُ عليها بالتكميل لتقوم بالحقِّ فتقيمَ غيرَها، لا منعُ الفاسق عن الوعظ.

يروى أنه كان عالم من العلماء مؤثِّرُ الكلام قويُّ التصرف في القلوب، وكان كثيراً ما يموتُ من أهل مجلسه واحدٌ أو اثنان من شدة تأثير وعظِه، وكان في بلده عجوزٌ لها ابنٌ صالحٌ رقيقُ القلب سريعُ الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعُه من حضور مجلس الواعظِ فحضَره يوماً على حين غفلةٍ منها فوقع من أمر الله تعالى ما وقع ثم إن العجوز لقِيت الواعظَ يوماً في الطريق فقالت:

لِتهدي الأنام ولا تهتديألا إنّ ذلك لا ينفعُ
فيا حَجَرَ الشَّحْذ حتى متىتسُنُّ الحديدَ ولا تقطع

فلما سمعه الواعظ شهَق شهقةً فخرَّ عن فرسه مغشياً عليه فحمَلوه إلى بـيته فتُوفّي إلى رحمة الله سبحانه.