التفاسير

< >
عرض

أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٧
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قولُه تعالى: { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ } فإنه إلى آخره تجهيلٌ لهم من جهته تعالى فيما حكىٰ عنهم فيكون إيرادُ خطاب المؤمنين في أثنائه من قَبـيل الفصل بـين الشجرِ ولِحائِه. على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف ـ وفي تعميمِه للنبـي أيضاً صلى الله عليه وسلم كما في أتطمعون - من سوء الأدب - ما لا يخفىٰ، والهمزةُ للإنكار والتوبـيخ كما قبلها، والواوُ للعطف على مقدَّر ينساقُ إليه الذهنُ، والضميرُ للموبَّخين أي أيلومونهم على التحديث المذكورِ مخافةَ المُحاجَّةِ ولا يعلمون { أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } أي يُسرُّونه فيما بـينهم من المؤمنين أو ما يُضْمرونه في قلوبهم فيثبتُ الحكمُ في ذلك بالطريق الأولى { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يظهرونه للمؤمنين أو لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يُظهرُ الله تعالى للمؤمنين ما أرادوا إخفاءَه بواسطة الوحْي إلى النبـي صلى الله عليه وسلم، فتحصُلُ المحاجَّة ويقعُ التبكيت، كما وقع في آية الرجم وتحريمِ بعضِ المحرماتِ عليهم، فأيُّ فائدةٍ في اللوم والعتاب؟.

ومن هـٰهنا تبـين أن المحظورَ عندهم هو المُحاجّة بما فتحَ الله عليهم - وهي حاصلةٌ في الدارَيْن حدَّثوا به أم لا - لا بالتحديث به حتى يندفعَ بالإخفاء، وقيل: الضميرُ للمنافقين فقط أو لهم وللموبَّخين أو لآبائهم المحرِّفين أي أيفعلون ما يفعلون ولا يعلمون أن الله يعلم جميعَ ما يُسِرُّون وما يعلنون ومن جملته إسرارُهم الكفرَ وإظهارُهم الإيمانَ وإخفاءُ ما فتح الله عليهم وإظهارُ غيرِه وكتمُ أمرِ الله وإظهارُ ما أظهروه افتراءً. وإنما قُدم الإسرارُ على الإعلان للإيذان بافتضاحهم ووقوعِ ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغةِ في بـيان شمولِ علمِه المحيطِ لجميع المعلومات كأن علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه مع كونهما في الحقيقة على السوية فإن علمَه تعالى بمعلوماته ليس بطريقِ حصولِ صُورِها، بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسه عِلْمٌ بالنسبة إليه تعالى. وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بـين الأشياء البارزةِ والكامنةِ ونظيره قولُه عز وعلا: { { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [آل عمران، الآية 29] حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء لما ذُكر من السر على عكس ما وقع في قوله تعالى: { { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } [البقرة، الآية 284] فإن الأصلَ في تعلق المحاسبة به هو الأمورُ الباديةُ دون الخافية، ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شيء يُعلَنُ إلا وهو أو مَباديه قبل ذلك مُضْمرٌ في القلب يتعلق به الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلقِه بحالته الثانية.