التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ
١١٦
فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ
١١٧
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ
١١٨
وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ
١١٩
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } شروعٌ في بـيان المعهودِ وكيفيةِ ظهور نسيانِه وفُقدانِ عزمِه، وإذ منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبـيُّ عليه الصلاة والسلام، أي واذكر وقتَ قولِنا لهم، وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث لما مر مراراً من المبالغة في إيجاب ذكرِها فإن الوقتَ مشتملٌ على تفاصيل الأمورِ الواقعةِ فيه، فالأمرُ بذكره أمرٌ بذكر تفاصيلِ ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ، ولأن الوقتَ مشتملٌ على أعيان الحوادثِ فإذا ذكر صارت الحوادثُ كأنها موجودةٌ في ذهن المخاطَبِ بوجود ذاتها العينيةِ، أي اذكر ما وقع في ذلك الوقتِ منا ومنه حتى يتبـينَ نسيانُه وفقدانُ عزمِه { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } قد سبق الكلامُ فيه مراراً { أَبَىٰ } جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جواباً عن سؤال نشأ عن الإخبار بعدم سجودِه، كأنه قيل: ما بالُه لم يسجُدْ؟ فقيل: أبىٰ واستكبر، ومفعول أبىٰ إما محذوفٌ أي أبىٰ السجودَ كما في قوله تعالى: { { أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } [الحجر: 31] أو غيرُ مَنْويَ رأساً بتنزيله منزلةَ اللام أي فعل الإباءَ وأظهره { فَقُلْنَا } عَقيبَ ذلك اعتناءً بنُصحه { يَاءَادَم إِنَّ هَـٰذا } الذي رأيتَ ما فعل { عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } أي لا يكونَنّ سبباً لإخراجكما { مِنَ ٱلْجَنَّةِ } والمرادُ نهيُهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطانُ إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني، كما في قولك: لا أُرَينّك هٰهنا، والفاءُ لترتيب موجبِ النهي على عداوته لهما أو على الإخبار بها { فَتَشْقَىٰ } جوابٌ للنهي، وإسنادُ الشقاء إليه خاصةً بعد تعليقِ الإخراجِ الموجبِ له بهما معاً لأصالته في الأمور واستلزامِ شقائِه لشقائها مع ما فيه من مراعاة الفواصل، وقيل: المرادُ بالشقاء التعبُ في تحصيل مبادىء المعاشِ وذلك من وظائف الرجال.

{ إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } تعليلٌ لما يوجبه النهيُ فإن اجتماعَ أسبابِ الراحة فيها مما يوجب المبالغةَ في الاهتمام بتحصيل مبادىء البقاءِ فيها، والجِدّ في الانتهاء عما يؤدّي إلى الخروج عنها. والعدلُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعّماً بفنون النعم من المآكل والمشاربِ وتمتعاً بأصناف الملابسِ البهية والمساكنِ المرْضيةِ ـ مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى ـ إلى ما ذكر من نفْي نقائِضها التي هي الجوعُ والعطشُ والعُرْي والضُحِيّ لتذكير تلك الأمورِ المنْكرة، والتنبـيهِ على ما فيها من أنواع الشِّقوةِ التي حذّره عنها ليبالغَ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، على أن الترغيبَ قد حصل بما سوّغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى ما استثني من الشجرة حسبما نطق به قوله تعالى: { { وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } [الأعراف: 19] وقد طُوي ذكرُه هٰهنا اكتفاءً بما ذكر في موضع آخرَ واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمّنِ للترهيب، ومعنى { أَن لا تَجُوعَ فِيهَا } الخ، أن لا يصيبَه شيء من الأمور الأربعة أصلاً فإن الشِبعَ والرِّيَّ والكسوة، ولكن قد تحصُل بعد عروض أضدادِها بإعواز الطعام والشرابِ واللباس والمسكنِ وليس الأمر فيها كذلك، بل كلُّ ما وقع فيها شهوةٌ وميلٌ إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة، ووجهُ إفرادِه عليه السلام بما ذكر ما مر آنفاً، وفصلُ الظمأ عن الجوع في الذكر مع تجانُسهما وتقارنِهما في الذكر عادةً وكذا حالُ العُرْي والضَّحْو المتجانسين، لتوفية مقامِ الامتنان حقَّه بالإشارة إلى أن نفيَ كلِّ واحد من تلك الأمور نعمةٌ على حيالها، ولو جمُع بـين الجوعِ والظمأ لربما تُوهم أن نفيَهما نعمةٌ واحدةٌ، وكذا الحال في الجمع بـين العُرْي والضَّحْو على منهاج قصة البقرة ولزيادة التقريرِ بالتنبـيه على أن نفيَ كل واحد من الأمورالمذكورة مقصودٌ بالذات مذكورٌ بالأصالة لا أن نفيَ بعضِها مذكورٌ بطريق الاستطرادِ والتبعية لنفي بعضٍ آخرَ كما عسى يُتوهم لو جمع بـين كلَ من المتجانسين، وقرىء إنك بالكسر والجمهورُ على الفتح بالعطف على أن لا تجوع، وصحةُ وقوعِ الجملة المصدّرةِ بأن المفتوحة اسماً للمكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيقِ مع امتناع وقوعِها خبراً لها لما أن المحذورَ اجتماعُ حرفي التحقيق في مادة واحدة ولا اجتماعَ فيما نحن فيه لاختلاف مناطِ التحقيقِ فيما في حيزهما، بخلاف ما لو وقعت خبراً لها فإن اتحادَ المناطِ حينئذ مما لا ريب فيه بـيانُه أن كل واحدةٍ من المكسورة والمفتوحة موضوعةٌ لتحقيق مضمونِ الجملة الخبريةِ المنعقدةِ من اسمها وخبرِها، ولا يخفى أن مرجِعَ خبريّتها ما فيها من الحُكم الإيجابـي أو السلبـيِّ وأن مناطَ ذلك الحكمِ خبرُها لا اسمُها، فمدلولُ كلَ منهما تحقيقُ ثبوتِ خبرِها لاسمها لا ثبوتِ اسمِها في نفسه، فاللازمُ من وقوع الجملةِ المصدرةِ بالفتحة اسماً للمكسورة تحقيقُ ثبوتِ خبرها لتلك الجملةِ المؤولة بالمصدر، وأما تحقيقُ ثبوتِها في نفسها فهو مدلولُ المفتوحةِ حتماً فلم يلزَم اجتماعُ حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعاً، وإنما لم يجوّزوا أن يقال: أن زيداً قائم، حتى مع اختلاف المناطِ بل شرطوا الفصلَ بالخبر كقولنا: إن عندي أن زيداً قائم للتجافي عن صورة الاجتماعِ، والواوُ العاطفة وإن كانت نائبةً عن المكسورة التي يمتنع دخولُها على المفتوحة بلا فصل وقائمةً مقامَها في إفضاء معناها وإجزاءِ أحكامِها على مدخولها، لكنها حيث لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق لم يلزم من دخولها على المفتوحة اجتماعُ حرفي التحقيقِ أصلاً، فالمعنى إن لك عدمَ الجوعِ وعدمَ العُري وعدَم الظمأ خلا أنه لم يُقتصَر على بـيان أن الثابتَ له عليه السلام عدمُ الظمأ والضَّحْو مطلقاً كما فُعل مثلُه في المعطوف عليه بل قُصد بـيانُ أن الثابتَ له عليه السلام تحقيقُ عدمِهما فوُضِع موضعَ الحرفِ المصدريّ المحض إنّ المفيدةُ له، كأنه قيل: إن لك فيها عدمَ ظمئك على التحقيق.