التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ
١٢٤
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً
١٢٥
قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ
١٢٦
وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ
١٢٧
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
١٢٨
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } أي عن الهدى الذاكرِ لي والداعي إليّ { فَإِنَّ لَهُ } في الدنيا { مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً، مصدرٌ وصف به ولذلك يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ، وقرىء ضنْكىٰ كسَكْرى وذلك لأن مجامعَ همتِه ومطامحَ نظرِه مقصورةٌ على أعراض الدنيا وهو متهالكٌ على ازديادها وخائفٌ على انتقاصها بخلاف المؤمنِ الطالبِ للآخرة، مع أنه قد يضيق الله تعالى بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى: { { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } [البقرة: 61] وقال تعالى: { { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ } إلى قوله تعالى: { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } وقيل: هو الضَّريعُ والزقومُ في النار، وقيل: عذاب القبر { وَنَحْشُرُهُ } وقرىء بسكون الهاء على لفظ الوقفِ وبالجزم عطفاً على محل (فإن له معيشةً ضنكاً) لأنه جواب الشرط { يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ } فاقدَ البصر كما في قوله تعالى: { { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } [الإسراء: 97] لا أعمى عن الحجة كما قيل { قَالَ } استئنافٌ كما مر { رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } أى في الدنيا، وقرىء أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديراً بالتغيـير لكونه رأسَ الآية ومحلَّ الوقف.

{ قَالَ كَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك فعلتَ أنت ثم فسره بقوله تعالى: { أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا } واضحةً نيِّرةً بحيث لا تخفى على أحد { فَنَسِيتَهَا } أي عَمِيتَ عنها وتركتها ترْكَ المنسيِّ الذي لا يُذكر أصلاً { وَكَذٰلِكَ } ومثلَ ذلك النسيانِ الذي كنت فعلته في الدنيا { ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } تترك في العمى جزاءً وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله، ثم يزيله عنه فيرى أهوالَ القيامة ويشاهد مقعدَه في النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب، وكذا البَكَم والصمَمُ يزيلهما الله تعالى عنهم { { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38] { وَكَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك الجزاءِ الموافقِ للجناية { نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ } بالإنهماك في الشهوات { وَلَمْ يُؤْمِن بِـئَايَـٰتِ رَبّهِ } بل كذبها وأعرض عنها { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ } على الإطلاق أو عذابُ النار { أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } أي من ضنْك العيشِ أو منه ومن الحشر على العمى.

{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ } كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ نَجْزِى } الآية، والهمزةُ للإنكارالتوبـيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام، واستعمالُ الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللام فلا حاجةَ إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبـيـين والمفعولُ محذوفٌ، وأياً ما كان فالفاعلُ هو الجملة بمضمونها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى أغَفلوا فلم يَفعل الهدايةَ لهم أو فلم يبـين لهم مآلَ أمرِهم كثرةُ إهلاكنا للقرون الأولى وقد مر في قوله عز وجل: { { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا } [الأعراف: 100]، وقيل: الفاعلُ الضميرُ العائد إلى الله عز وجل ويؤيده القراءةُ بنون العظمة وقوله تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا } الخ، إما معلِّقٌ للفعل سادٌّ مسدَّ مفعولِه أو مفسّرٌ لمفعوله المحذوف هكذا قيل، والأوجهُ أن لا يُلاحَظَ مفعولٌ كأنه قيل: أفلم يفعلِ الله تعالى لهم الهدايةَ؟ ثم قيل بطريق الالتفاتِ: كم أهلكنا الخ بـياناً لتلك الهدايةِ، ومن القرى في محل النصبِ على أنه وصفٌ لممُيِّزِكَم أي كم قرناً كائناً من القرون وقوله تعالى: { يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ } حالٌ من القرون أو من مفعول أهلكْنا، أي أهلكناهم وهم في حال أمنٍ وتقلّبٍ في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكدٌ للإنكار والعاملُ يهد، والمعنى أفلم يهد لهم إهلاكُنا للقرون السالفة من أصحاب الحِجْر وثمودَ وقُريّات قوم لوطٍ حالَ كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكِهم، مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحِلَّ بهم مثلُ ما حل بأولئك، وقرىء يُمْشَوْن على البناء للمفعول أي يمكثون على المشي { إِنَّ فِى ذَلِكَ } تعليلٌ للإنكار وتقريرٌ للهداية مع عدم اهتدائِهم، وذلك إشارةٌ إلى مضمون قوله تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا } الخ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِه وعلوِّ شأنه في بابه { لآيَاتٍ } كثيرةً عظيمةً واضحاتِ الهداية ظاهراتِ الدِلالة على الحق، فإذن هو هادٍ وأيُّما هادٍ ويجوز أن تكون كلمةُ في تجريدية فافهم { لأُوْلِى ٱلنُّهَىٰ } لذوي العقولِ الناهيةِ عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفارُ مكّة من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغيرِ ذلك من فنون المعاصي، وفيه دلالةٌ على أن مضمونَ الجملة هو الفاعلُ لا المفعول.