التفاسير

< >
عرض

إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
٣٥
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ
٣٦
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } أي عالماً بأحوالنا وبأن ما دعوتُك به مما يُصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كُلّفتُه من إقامة مراسمِ الرسالةِ وبأن هارونَ نِعمَ الرِّدْءُ في أداء ما أُمرت به، والباءُ متعلقة ببصيراً قُدّمت عليه لمراعاة الفواصل.

{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } أي أُعطيتَ سُؤْلك، فُعْلٌ بمعنى مفعول كالخبز والأُكْل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاءُ عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوقوع تلك المطالبِ وحصولِها له عليه السلام البتة وتقديرِه إياها حتماً، فكلُّها حاصلةٌ له عليه السلام وإن كان وقوعُ بعضها بالفعل مترقباً بعدُ كتيسير الأمر وشدِّ الأزْر، وباعتباره قيل: سنشُدّ عضُدَك بأخيك، وقولُه تعالى: { يٰمُوسَىٰ } تشريفٌ له عليه السلام بشرف الخِطاب إثرَ تشريفِه بشرف قَبول الدعاء.

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ } كلامٌ مستأنَفٌ مَسوق لتقرير ما قبله وزيادةِ توطينِ نفس موسى عليه السلام بالقبولِ ببـيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمِ التامة من غير سابقةِ دعاءٍ منه وطلبٍ فلأَن يُنعِم عليه بمثلها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحرى، وتصديرُه بالقسم لكمال الاعتناءِ بذلك أي وبالله لقد أنعمنا { مَرَّةً أُخْرَىٰ } أي في وقت غيرِ هذا الوقت لا أن ذلك مؤخّرٌ عن هذا فإن أخرى تأنيثُ آخَرَ بمعنى غير، والمرةُ في الأصل اسمٌ للمرور الواحدِ ثم أُطلق على كل فَعْلة واحدةٍ من الفَعَلات متعديةً كانت أو لازمة، ثم شاع في كل فرد واحدٍ من أفراد ما لَه أفرادٌ متجددةٌ متعددة فصار علماً في ذلك حتى جُعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء، فقيل: هذا بناء المرة، ويقرب منها الكرّةُ والتارَةُ والدفعةُ والمراد بها هٰهنا الوقتُ الممتدُّ الذي وقع فيه ما سيأتي ذكرُه من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّكَ مَا يُوحَىٰ } ظرفٌ لمننّا والمرادُ بالإيحاء إما الإيحاءُ على لسان نبـيَ في وقتها كقوله تعالى: { { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ } [المائدة: 111] الآية، وإما الإيحاءُ بواسطة الملَك لا على وجه النبّوة كما أوحيَ إلى مريم، وإما الإلهامُ كما قي قوله تعالى: { { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 67] وإما الإراءةُ في المنام والمرادُ بما يوحى ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذْفِه في البحر، أُبهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه ثم فُسّر ليكون أقرَّ عند النفسِ، وقيل: معناه ما ينبغي أن يوحىٰ ولا يُخَلَّ به لعِظم شأنه وفرْطِ الاهتمام به، وقيل: ما لا يُعلم إلا بالوحي وفيه أنه لا يلائم المعنيـين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيمَ لشأنه في أن يكون مما لا يُعلم إلا بالإلهام أو بالإراءة في المنام.