التفاسير

< >
عرض

قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ
٤٥
قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
٤٦
فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ
٤٧
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالاَ رَبَّنَا } أُسند القولُ إليهما مع أن القائلَ حقيقةً هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليبِ إيذاناً بأصالته في كل قولٍ وفعلٍ وتبعيّةِ هارونَ عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر، ويجوز أن يكون هارونُ قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحَكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزولِ الآية كما في قوله تعالى: { { يـٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ } [المؤمنون: 51] فإن هذا الخطابَ قد حُكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلاًّ من المخاطَبـين لم يخاطَب إلا بطريق الانفرادِ ضرورةَ استحالةِ اجتماعِهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي يعجَلَ علينا بالعقوبة ولا يصبِرَ إلى إتمام الدعوةِ وإظهارِ المعجزة من فرَط إذا تقدّم ومنه الفارِطُ وفرسٌ فارِطٌ يسبِق الخيلَ، وقرىء يُفرِطَ من أفرطه إذا حمله على العجلة، أي نخاف أن يحمِله حاملٌ من الاستكبار أو الخوف على المُلك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب { أَوْ أَن يَطْغَىٰ } أي يزداد طغياناً إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءتِه وقساوته، وإطلاقُه من حسن الأدب، وإظهارُ كلمة أن مع سَداد المعنى بدونه لإظهار كمالِ الاعتناء بالأمرِ والإشعارِ بتحقق الخوفِ من كل منهما.

{ قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال الناشىءِ من النظم الكريم، ولعل الفعلَ إسنادٌ إلى ضمير الغَيبة للإشعار بانتقال الكلامِ من مَساق إلى مساقٍ آخرَ، فإن ما قبله من الأفعال الواردةِ على صيغة التكلم حكايةٌ لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى: { { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأعْلَىٰ } [طه: 68] فإن ما قبله أيضاً واردٌ بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: فماذا قال لهما ربُّهما عند تضرُّعِهما إليه؟ فقيل: قال: { لاَ تَخَافَا } ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى: { إِنَّنِى مَعَكُمَا } تعليلٌ لموجب النهي ومزيدُ تسليةٍ لهما، والمرادُ بالمعية كمالُ الحفظ والنُّصرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: { أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } أي ما يجري بـينكما وبـينه من قول وفعلٍ فأفعلُ في كل حال ما يليق بها من دفع ضُرّ وشر وجلب نفعٍ وخير. ويجوز أن لا يُقدَّر شيءٌ، على معنى أنني حافظُكما سميعاً بصيراً والحافظ الناصرُ إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النُّصرةُ غايتها { فَأْتِيَاهُ } أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار، وهو عطف على لا تخافا باعتبار تعليلِه بما بعده { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } أُمرا بذلك تحقيقاً للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه، وكذا التعرّضُ لربوبـيته تعالى له والفاء في قوله تعالى: { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما، والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى: { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ، ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءَهم، وتوسيطُ حكمِ الإرسال بـين بـيان رسالتِهما وبـين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون، فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة، ولأن في بـيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى، فتأخيرُ ذلك عنه مُخِلٌّ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم، وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلاّ.

{ قَدْ جِئْنَـٰكَ بِـئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ، فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتَهما ويُقِرّها ويوجب الامتثالَ بأمرهما، وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل، وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بـيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى: { { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ } [الأعراف: 105] وقولُه تعالى: { { أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ } [الشعراء: 30] وأما قوله تعالى: { { فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الشعراء: 154] فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات { وَٱلسَّلَـٰمُ } المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين { عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق، وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفىٰ.