التفاسير

< >
عرض

بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
١٨
وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ
١٩
يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
٢٠
-الأنبياء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ } إضرابٌ عن اتخاذ اللهوِ بل عن إرادته، كأنه قيل: لكنا لا نريده بل شأنُنا أن نُغلّب الحقَّ ـ الذي من جملته الجِدُّ ـ على الباطل الذي من قبـيله اللهوُ، وتخصيصُ شأنِه هذا من بـين سائر شؤونِه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد { فَيَدْمَغُهُ } أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المَحْكية، وقد استُعير لإيراد الحقِّ على الباطل القذفُ الذي هو الرمْيُ الشديدُ بالجِرم الصُّلْب كالصخرة، وَلمَحْقه للباطل الدمغُ الذي هو كسرُ الشيء الرِّخْوِ الأجوفِ وهو الدِّماغ بحيث يشق غشاءَه المؤدّيَ إلى زُهوق الروحِ تصويراً له بذلك، وقرىء فيدمغَه بالنصب وهو ضعيف، وقرىء فيدمُغه بضم الميم { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي ذاهبٌ بالكلية، وفي إذا الفجائية والجملة الاسميةِ من الدِلالة على كمال المسارعةِ في الذهاب والبُطلان ما لا يخفى فكأنه زاهقٌ من الأصل { وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } وعيدٌ لقريش بأن لهم أيضاً مثلَ ما لأولئك من العذاب والعقاب، ومن تعليليةٌ متعلقةٌ بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ، أو بمحذوف هو حالٌ من الويل أو من ضميره في الخبر، وما إما مصدريةٌ أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي واستقر لكم الويلُ والهلاكُ من أجل وصفِكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل، أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد أو كائناً مما تصفونه تعالى به.

{ وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } استئنافٌ مقررٌ لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاتِه على حكمة بالغةٍ ونظامٍ كامل وأنه تعالى يُحِق الحقَّ ويُزْهق الباطل، أي له تعالى خاصة جميعُ المخلوقات خلقاً ومُلكاً وتدبـيراً وتصرفاً وإحياءً وإماتةً وتعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما استقلالاً أو استتباعاً { وَمَنْ عِندَهُ } وهم الملائكةُ عليهم السلام، عبّر عنهم بذلك إثرَ ما عبّر عنهم بمن في السموات تنزيلاً لهم ـ لكرامتهم عليه عز وعلا وزُلْفاهم عنده ـ منزلةَ المقربـين عندالملوكِ بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبرُه { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي لا يتعظمون عنها ولا يُعدّون أنفسهم كبـيراً { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ولا يكِلّون ولا يَعيَوْن، وصيغةُ الاستفعال المنبئةِ عن المبالغة في الحُسور للتنبـيه على أن عباداتِهم بثقلها ودوامها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها ومع ذلك لا يستحسرون، لا لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصلِه في الجملة كما أن نفيَ الظلاّمية في قوله تعالى: { وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } لإفادة كثرةِ الظلم المفروضِ تعلقُّه بالعبـيد لا لإفادة نفي المبالغةِ في الظلم مع ثبوت أصلِ الظلم في الجملة، وقيل: من عنده معطوف على من الأولى وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في مَن في السموات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى: { { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ } [البقرة: 98] فقوله تعالى: { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } حينئذ حال من الثانية.

{ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظّمونه ويمجدونه دائماً، وهو استئنافٌ وقع جواباً عما نشأ مما قبله، كأنه قيل: ماذا يصنعون في عباداتهم أو كيف يعبدون؟ فقيل: يسبحون الخ، أو حالٌ من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى: { لاَ يَفْتُرُونَ } أي لا يتخلل تسبـيحَهم فترةٌ أصلاً بفراغ أو بشغل آخرَ.