التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ
٦٦
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٦٧
قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
٦٨
قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
-الأنبياء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ } مبكّتاً لهم { أَفَتَعْبُدُونَ } أي أتعلمون ذلك فتعبدون { مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي متجاوزين عبادتَه تعالى: { مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } من النفع { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } فإن العلمَ بحاله المنافيةِ للألوهية مما يوجب الاجتنابَ عن عبادته قطعاً.

{ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } تضجّرٌ منه عليه الصلاة والسلام من إصرارهم على الباطل البـيّن، وإظهارُ الاسم الجليلِ في موضع الإضمارِ لمزيد استقباحِ ما فعلوا، وأفَ صوتُ المتضجِّر ومعناه قُبحاً ونتْناً واللامُ لبـيان المتأفَّفِ له { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون قبحَ صنيعكم.

{ قَالُواْ } أي قال بعضُهم لبعض لما عجَزوا عن المُحاجّة وضاقت عليهم الحِيلُ وعيَّت بهم العللُ، وهكذا دَيدنُ المبطِلِ المحجوجِ إذا قَرَعْتَ شبُهتَه بالحجة القاطعة وافتُضِح لا يبقى له مفزِعٌ إلا المناصبةُ { حَرّقُوهُ } فإنه أشدُّ العقوبات { وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ } بالانتقام لها { إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ } أي للنصر أو لشيء يُعتدّ به، قيل: القائلُ نمرودُ بنُ كنعان بن السنجاريب بن نمرود بن كوسِ بن حام بن نوح، وقيل: رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون، وقيل: هدير خُسِفت به الأرض، روي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى، قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى: { { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَـٰناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 97] فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحدٌ، حتى إن كانت الطير لتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهَجِها ولم يكد أحد يحوم حولها. فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليسُ وعلمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه، وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرضَ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم عَمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولاً فرمَوا به فيها فقال له جبريلُ عليهما السلام: هل لك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك، قال: حسبـي من سؤالي علمُه بحالي، فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرةَ روضةً وذلك قوله تعالى: { قُلْنَا يٰنَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي برداً غيرَ ضارّ وفيه مبالغات: جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي، ثم حذفُ المضافِ وإقامةُ المضاف إليه مُقامَه، وقيل: نصب سلاماً بفعله أي وسلمنا عليه. روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي إبراهيمَ وأقعدوه على الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال: ما كنت أطيبَ عيشاً مني إذ كنت فيها، قال ابن يسار: وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه، فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالساً في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة والنارُ محيطةٌ به، فناداه: يا إبراهيمُ هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: فقم فاخرُج، فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال: مَن الرجلُ الذي رأيته معك؟ قال: ذلك ملَك الظلّ أرسله ربـي ليؤنسني، فقال: إني مقرِّبٌ إلى إلٰهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، فقال عليه السلام: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا، قال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة، فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذا ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة. وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله عز وجل لكن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ، وقيل: كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى: { عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ }.