التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧
-الأنبياء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قوله عز وجل: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } جوابٌ لقولهم: هل هذا إلا بشر؟ الخ، متضمنٌ لردّ ما دسّوا تحت قولهم: كما أُرسل الأولون من التعريض بعدم كونِه عليه السلام مثلَ أولئك الرسلِ صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، ولذلك قُدّم عليه جوابُ قولهم: فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيزِ فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطالِه كما مر في تفسير قوله تعالى: { { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [هود: 33] وقوله تعالى: { { مَا نُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } [الحجر: 8] ولأن في هذا الجواب نوعَ بسطٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظم الكريم، والحقُّ أن ما اتخذوه سبباً للتكذيب موجبٌ للتصديق في الحقيقة لأن مقتضىٰ الحكمةِ أن يُرسلَ إلى البشر البشرُ وإلى الملَك الملَكُ حسبما ينطِق به قوله تعالى: { { قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلأَرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } [الإسراء: 95] فإن عامةَ البشر بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملَكية لتوقّفها على التناسب بـين المُفيض والمستفيض، فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدور فلكُ التكوينِ والتشريع، وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يبعث الملكُ منهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب آخرَ، وقوله تعالى: { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } استئنافٌ مبـينٌ لكيفية الإرسالِ وصيغةُ المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية المستمرةِ، وحُذف المفعولُ لعدم القصدِ إلى خصوصه، والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبلَ إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنسِ مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملَك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار، كما نوحي إليك من غير فرقٍ بـينهما في حقيقة الوحي وحقيقةِ مدلولِه حسبما يَحكيه قوله تعالى: { { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيّينَ } [النساء: 163] إلى قوله تعالى: { { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164] كما لا فرقَ بـينك وبـينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدْعاً من الرسل وأن ما أُوحيَ إليك ليس مخالفاً لما أوحيَ إليهم فيقولون ما يقولون، وقرىء يوحىٰ إليهم بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بتعين الفاعل وقوله تعالى: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالِهم عن رتبة الاستبعادِ والنكير إثرَ تحقيق الحقِّ على طريقة الخطابِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيقُ بالخطاب في أمثال تلك الحقائقِ الأنيقةِ، وأما الوقوفُ عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوامِّ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدلالة المذكورِ عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذُكر فاسألوا أيها الجهلةُ أهلَ الكتاب الواقفين على أحوال الرسلِ السالفةِ عليهم السلام لتزول شبهتُكم. أُمروا بذلك لأن إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلمَ لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام، ففيه من الدِلالة على كمال وضوحِ الأمر وقوةِ شأنِ النبـي عليه السلام ما لا يخفى.