{ إِنَّ هَـٰذِهِ } أي ملةَ التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبـيهاً على كمال ظهور أمرِها في الصحة والسَّداد { أُمَّتُكُمْ } أي ملتُكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتُراعوا حقوقَها ولا تُخِلّوا بشيء منها والخطابُ للناس قاطبة { أُمَّةً وَاحِدَةً } نصب على الحالية من أمتُكم أي غيرَ مختلفة فيما بـين الأنبـياء عليهم السلام، إذ لا مشاركةَ لغيرها في صحة الاتباعِ ولا احتمال لتبدّلها وتغيُّرها كفروع الشرائعِ المتبدلة حسب تبدّلِ الأممِ والأعصار، وقرىءأمتَكم ـ بالنصب على البدلية من اسم إن ـ أمةٌ واحدةٌ بالرفع على الخبرية وقرئتا بالرفع على أنهما خبران { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ } لا إلٰه لكم غيري { فَٱعْبُدُونِ } خاصة لا غيرُ.
وقوله تعالى: { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } التفاتٌ إلى الغَيبة لينعىٰ عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعلِ أمره قِطَعاً مُوَزّعةً وينهى قبائحَ أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل: ألا ترَون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافةُ الأنبـياء عليهم السلام { كُلٌّ } أي كلُّ واحدة من الفرق المتقطّعة أو كلُّ واحد من آحاد كلِّ واحدة من تلك الفرق { إِلَيْنَا رٰجِعُونَ } بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم، وإيرادُ اسمِ الفاعل للدِلالة على الثبات والتحقق.
وقوله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } الخ، تفصيلٌ للجزاء أي فمن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله ورسله { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي لا حِرمانَ لثواب عملِه ذلك، عبّر عن ذلك بالكفران الذي هو سَتْرُ النعمة وجحودُها لبـيان كمال نزاهتِه تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابة في معرِض الأمور الواجبةِ عليه تعالى، ونفيُ الجنس للمبالغة في التنزيه وعبّر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به { وَإِنَّا لَهُ } أي لسعيه { كَـٰتِبُونَ } أي مُثبّتون في صحائف أعمالِهم لا نغادر من ذلك شيئاً.
{ وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ } أي ممتنعٌ على أهلها غيرُ متصوَّر منهم، وقرىء حِرْمٌ وهي لغة كالحِل والحلال { أَهْلَكْنَـٰهَا } قدّرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعتوّهم وقوله تعالى: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } في حيز الرفع على أنه مبتدأٌ خبرُه حرامٌ أو فاعل له سادٌّ مسدَّ خبرِه، والجملةُ لتقرير مضمونِ ما قبلها من قوله تعالى: { كُلٌّ إِلَيْنَا رٰجِعُونَ } [الأنبياء: 93] وما في أنّ من معنى التحقيق معتبرٌ في النفي المستفادِ من حرامٌ لا من المنفي أي ممتنعٌ البتةَ عدمُ رجوعِهم إلينا للجزاء، لا أن عدمَ رجوعِهم المحقق ممتنعٌ، وتخصيصُ امتناعِ عدمِ رجوعِهم بالذكر مع شمول الامتناعِ لعدم رجوعِ الكل حسبما نطق به قوله تعالى: { كُلٌّ إِلَيْنَا رٰجِعُونَ } [الأنبياء: 93] لأنهم المنكِرون للبعث والرجوعِ دون غيرهم، وقيل: ممتنعٌ رجوعُهم إلى التوبة على أن (لا) صلةٌ، وقرىء أنهم لا يرجِعون بالكسر على أنه استئنافٌ تعليليٌّ لما قبله فحرامٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي محرمٌ عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوعِ بالإيمان والسعي المشكور، ثم علل بقوله تعالى:
{ { أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } [القصص: 39] عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حملُ المفتوحة أيضاً على هذا المعنى بحذف اللامِ عنها، أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } الخ، هي التي يُحكى بعدها الكلامُ وهي على الأول غايةٌ لما يدل عليه ما قبلها، كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامةُ يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا الخ، وعلى الثاني غايةٌ للحُرمة أي يستمر امتناعُ رجوعِهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبةُ، وعلى الثالث غايةٌ لعدم الرجوعِ عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع، ويأجوجُ ومأجوجُ قبـيلتان من الإنس قالوا: الناسُ عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها يأجوجُ ومأجوج، والمرادُ بفتحها فتحُ سدِّها على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه، وقرىء فتّحت بالتشديد { وَهُمْ } أي يأجوجُ ومأجوجُ، وقيل: الناس { مّن كُلّ حَدَبٍ } أي نشَز من الأرض، وقرىء جدَث وهو القبر { يَنسِلُونَ } أي يسرعون وأصله مقاربةُ الخَطْو مع الإسراع، وقرىء بضم السين.