التفاسير

< >
عرض

وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
٩٧
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
٩٨
-الأنبياء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ } عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى { فَإِذَا هِىَ شَـٰخِصَةٌ أَبْصَـٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } جوابُ الشرط وإذا للمفاجأة تسدّ مسدّ الفاءِ الجزائية كما في قوله تعالى: { { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم: 36] فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط، والضميرُ للقصة أو مبهمٌ يفسره ما بعده { يٰوَيْلَنَا } على تقدير قول وقع حالاً من الموصول، أي يقولون: يا ويلنا تعالَ فهذا أوانُ حضورِك، وقيل: هو الجواب للشرط { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ } تامة { مّنْ هَـٰذَا } الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ { بَلْ كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبـين بها، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.

وقوله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } خطابٌ لكفار مكةَ وتصريحٌ بمآل أمرهم مع كونه معلوماً مما سبق على وجه الإجمالِ مبالغة في الإنذار وإزاحةِ الاعتذار، وما تعبدون عبارةٌ عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يفصح عنه كلمة ما، وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلا الآيةَ قال له ابن الزِّبَعْرَى: خصمتُك وربِّ الكعبة أليست اليهودُ عبدوا عُزيراً والنصارى المسيحَ وبنو مليحٍ الملائكةَ؟ ردّ عليه بقوله عليه السلام: ما أجهلك بلغة قومك، أما فهمت أن ما لما لا يعقل؟" ، ولا يعارضه ما روي أنه عليه السلام رده بقوله: "بل هم عبدوا الشياطينَ التي أمرتْهم بذلك" ، ولا ما روي أن عبدَ اللَّه بن الزُّبعرى قال: هذا شيءٌ لآلهتنا خاصة أو لكل مَنْ عُبد من دون الله، فقال عليه السلام: "بل لكل من عُبد من دون الله تعالى" إذ ليس شيءٌ منهما نصاً في عموم كلمة ما كما أن الأولَ نصٌّ في خصوصها، وشمولُ حكم النص لا يقتضي شمولَه بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شمولُه لهم بطريق دِلالة النصِّ بجامع الشركةِ في المعبودية من دون الله تعالى، فلعله عليه السلام بعد ما بـين مدلولَ النظمِ الكريم بما ذكر، وعدمَ دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارةِ بـيّن عدم دخولِهم فيه بطريق الدِلالة أيضاً تأكيداً للرد والإلزام وتكريراً للتبكيت والإفحام، لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمُهم فإن إخراجَ بعضِ المعبودين عن حكم منبىءٍ عن الغضب على العبَدة والمعبودين مما يوهم الرخصةَ في عبادته في الجملة، بل بتحقيق الحقِّ وبـيانِ أنهم ليسوا من المعبودية في شيء حتى يُتوهم دخولُهم في الحكم المذكورِ دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دون الله تعالى، وإنما معبودُهم الشياطينُ التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قولُه تعالى: { { سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [الأنبياء: 101] الآية، فهم الداخلون في الحُكم المذكور لإشراكهم الأصنامَ في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجهُ في التوفيق بـين الأخبار المذكورة، وأما تعميمُ كلمةِ ما للعقلاء أيضاً وجعلُ ما سيأتي من قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [الأنبياء: 94] الخ، بـياناً للتجوز أو التخصيص فمما لا يساعده السباقُ والسياق كما يشهد به الذوقُ السليم، والحَصَبُ ما يُرمى به ويهيج به النار من حصَبه إذا رماه بالحصْباء، وقرىء بسكون الصاد وصفاً له بالمصدر للمبالغة { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } استئنافٌ أو بدلٌ من حصبُ جهنمَ واللامُ معوّضة من على للدِلالة على الاختصاص وأن ورودَهم لأجلها والخطابُ لهم ولما يعبدون تغليباً.