التفاسير

< >
عرض

يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
-الحج

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَدْعُو مِن دُونِ ٱللَّهِ } استئنافٌ مبـيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزاً عبادةَ الله تعالى { مَا لاَ يَضُرُّهُ } إذا لم يعبدْهُ { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إنْ عبدَهُ أي جماداً ليسَ من شأنِه النَّفعُ كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما { ذٰلِكَ } الدُّعاءُ { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالاًّ عن الطَّريقِ { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } استئنافٌ مسوق لبـيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالاً بعيداً مع إزاحةِ ما عسى يُتوَّهم من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التَّسبـيبِ أيضاً فالدُّعاءُ بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولاً له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى: { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو جوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ، وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جماداً وإيرادُ صيغة التَّفضيل مع خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبـيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلاً لمن ضرُّه أقربُ من نفعِه، والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ، ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيداً له فقط بل وتمهيداً لما بعده من بـيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بـيانِ سوءِ حال عبادتِه بقوله تعالى: { ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } كأنَّه قيل من جهته تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضُرُّه أقربُ من نفعِه: والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ، فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل: اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعُو، ويؤيِّدُه القراءةُ بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضاً والجملة القسميةُ مستأنفة.

{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جَنَـٰتٍ } استئنافٌ جيء به لبـيان كمال حسنِ حالِ المؤمنينَ العابدينَ له تعالى وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يتفضَّل عليهم بما لا غايةَ وراءه من أجلِّ المنافعِ وأعظمِ الخيراتِ إثرَ بـيانِ غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ ومآلِهم من فريقَيْ المجاهرينَ والمذبذبـينَ وأنَّ معبودَهم لا يُجديهم شيئاً من النَّفع بل يضرُّهم مضرَّةً عظيمةً وأنَّهم يعترفون بسوءِ ولايتِه وعشرتِه ويذمُّونه مذمَّةً تامَّةً وقوله تعالى: { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } صفة لجنَّاتٍ فإن أُريد بها الأشجارُ المتكاثفةُ السَّاترةُ لما تحتها فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ، وإنْ أُريد بها الأرضُ فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها، وإن جُعلت عبارةً عن مجموعِ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظَّاهرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنَّةِ على الكلِّ كما مرَّ تفصيلُه في أوائلِ سورةِ البقرةِ. وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ له بطريقِ التَّحقيقِ أي يفعلُ البتة كلَّ ما يريدُه من الأفعالِ المتقنةِ اللاَّئقةِ المبنيَّةِ على الحكمِ الرَّائقةِ التي من جُملتها إثابةُ مَن آمنَ به وصدَّقَ رسولَه صلى الله عليه وسلم وعقابُ مَن أشركَ به وكذَّب برسولِه عليه السَّلامُ ولمَّا كانَ هذا من آثارِ نُصرته تعالى له عليه السَّلامُ عُقِّب بقولِه عزَّ وعلا: { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } تحقيقاً لها وتقريراً لثبوتها على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه. وفيه إيجازٌ بارعٌ واختصارٌ رائعٌ والمعنى: أنَّه تعالى ناصرٌ لرسوله في الدُّنيا والآخرةِ لا محالةَ من غير صارفٍ يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه فمن كانَ يغيظُه ذلك من أعاديهِ وحُسَّادِه ويظنُّ أنْ لَنْ يفعله تعالى بسببِ مدافعتِه ببعضِ الأمورِ ومباشرة ما يردُّه من المكايد فليبالغْ في استفراغِ المجهودِ وليجاوزْ في الجدِّ كلِّ حدَ معهودٍ فقُصارى أمرِه وعاقبةِ مكرِه أنْ يختنقَ حنقاً ممَّا يرى من ضلالِ مساعيهِ وعدمِ إنتاجِ مقدِّماتِه ومباديهِ { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَاء } فليمدُدْ حبلاً إلى سقفِ بـيتِه { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } أي ليختنقْ، من قطَع إذا اختنقَ لأنَّه يقطع نفَسَه بحبسِ مجاريهِ وقيل: ليقطعِ الحبلَ بعد الاختناقِ على أنَّ المرادَ به فرضُ القطعِ وتقديرُه، كما أنَّ المرادَ بالنَّظرِ في قوله تعالى: { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } تقديرُ النَّظر وتصويرُه أي فليصوِّر في نفسِه النَّظرَ هل يُذهبنَّ كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهتْ إليه قدرتُه في باب المُضادَّةِ والمُضارَّةِ ما يغيظه من النُّصرةِ كلا، ويجوز أنْ يُراد فلينظر الآنَ أنَّه إنْ فعلَ ذلك هَلْ يُذهب ما يغيظُه، وقيل: المعنى فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وليصعدْ عليه ثم ليقطعْ الوحيَ، وقيل: ليقطعَ المسافةَ حتَّى يبلغَ عنانَها فيجتهدَ في دفعِ نصرِه ويأباهُ أنَّ مساقَ النَّظمِ الكريمِ بـيانُ أنَّ الأمورَ المفروضةَ على تقديرِ وقوعِها وتحقُّقِها بمعزلٍ من إذهابِ ما يغيظُ ومن البـيِّنِ أنْ لا معنى لفرضِ وقوعِ الأمورِ الممتنعةِ وترتيبِ الأمرِ بالنَّظرِ عليه لا سيَّما قطعُ الوحيِ فإنَّ فرضَ وقوعِه مخلٌّ بالمرامِ قطعاً، وقيل: كانَ قومٌ من المسلمينَ لشدَّةِ غيظِهم وحنقِهم على المُشركين يستبطئونَ ما وعد الله رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من النَّصرِ وآخرون من المشركينَ يُريدون اتباعَه عليه السَّلامُ ويخشَون أنْ لا يثبت أمرُه فنزلتْ وقد فسِّر النَّصرُ بالرِّزق فالمعنى أنَّ الأرزاقَ بـيدِ الله تعالى لا تُنال إلاَّ بمشيئتِه تعالى فلا بُدَّ للعبدِ من الرِّضا بقسمتِه فمن ظنَّ أنَّ الله تعالى غيرُ رازقِه ولم يصبرْ ولم يستسلمْ فليبلغ غايةَ الجزعِ وهو الاختناقُ فإنَّ ذلكَ لا يغلبُ القسمةَ ولا يردُّه مرزوقاً.

{ وَكَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنطوي على الحكمِ البالغةِ { أَنزَلْنَـٰهُ } أي القرآنَ الكريمَ كلَّه وقوله تعالى: { ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ } أي واضحاتِ الدِّلالةِ على معانيها الرَّائقةِ حالٌ من الضَّميرِ المنصوبِ مبـينةٍ لما أُشير إليه بذلك { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى } به ابتداءً أو يثبِّت على الهُدى أو يزيدُ فيه { مَن يُرِيدُ } هدايتَه أو تثبـيتَه أو زيادتَه فيها ومحلُّ الجملةِ إمَّا الجرُّ على حذف الجارِّ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ أي ولأنَّ الله يهدي من يريدُ أنزلَه كذلك أو الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّ الله يهدي مَن يُريد هدايتَه.