التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ
٤٦
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
٤٧
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
٤٨
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٤٩
-الحج

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ } حثٌّ لهم أن يُسافروا ليرَوا مصارع المهلَكين فيعتبروا وهمُ وإنْ كانُوا قد سافروا فيها ولكنَّهم حيث لم يُسافروا للاعتبارِ جُعلوا غيرَ مسافرين فحثُّوا على ذلك. والفاءُ لعطفِ ما بعدها على مقدَّرٍ يقتضيه أي أغفِلُوا فلم يسيروا فيها { فَتَكُونَ لَهُمْ } بسبب ما شاهدُوه من موادِّ الاعتبار ومظانِّ الاستبصار { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } يجب أنْ يُعقل من التَّوحيدِ { أَوْ ءَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ما يجبُ أنْ يُسمع من الوحيِ أو من أخبارِ الأُممِ المُهلَكة ممَّن يُجاورهم من النَّاسِ فإنَّهم أعرف منهم بحالِهم { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ } الضَّميرُ للقصَّةِ أو مبهمٌ يفسِّرُه الأبصارُ. وفي تعمى ضمير راجعٌ إليه وقد أقيم الظَّاهرُ مُقامَه { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ } أي ليس الخللُ في مشاعرِهم وإنَّما هو في عقولِهم باتِّباع الهَوَى والانهماكِ في الغَفْلةِ. وذكر الصُّدورِ للتَّأكيدِ ونفيِ تَوهُّمِ التَّجوزِ وفضل التَّنبـيه على أنَّ العَمَى الحقيقيَّ ليس المتعارف الذي يختصُّ بالبصر، قيل: لمَّا نزل قوله تعالى: { { وَمَن كَانَ فِى هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ } [ الإسراء: 72] قال ابنُ أُمِّ مكتومٍ: يا رسولَ الله، أنا في الدُّنيا أعمى أفأكونُ في الآخرةِ أعمى؟

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } كانوا منكرين لمجيءِ العذابِ المتوعَّدِ به أشدَّ الإنكارِ وإنَّما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزاً له على زعمِهم فحَكَى عنهم ذلك بطريقِ التَّخطئةِ والاستنكارِ فقوله تعالى: { وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } إمَّا جملةٌ حاليَّةٌ جيء بها لبـيانِ بُطلانِ إنكارِهم لمجيئه في ضمن استعجالِهم به وإظهار خطئِهم فيه كأنَّه قيل: كيف يُنكرون مجيءَ العذابِ الموعود والحالُ أنَّه تعالى لا يُخلف وعدَه أبداً وقد سبق الوعدُ فلا بُدَّ من مجيئِه حتماً أو اعتراضيةٌ مبيَّنةٌ لمَا ذُكر. وقولُه تعالى: { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } جملة مستأنفة إنْ كانت الأُولى حاليَّةً ومعطوفةٌ عليها إنْ كانتْ اعتراضيةً سيقت لبـيان خطئِهم في الاستعجال المذكورِ ببـيان كمال سَعةِ ساحةِ حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطنِهم المستتبع لكون المُدَّة القصيرةِ عنده تعالى مُدداً طوالاً عندهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى: { { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج: 6-7] ولذلك يرَون مجيئَه بعيداً ويتَّخذونه ذريعةً إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجالِ به ولا يدرون أنَّ معيار تقدير الأمور كلِّها وقوعاً وأخباراً ما عنده تعالى من المقدار. وقراءة يعدّون على صيغة الغَيبة أي يعده المستعجلون أوفقُ لهذا المعنى وقد جعل الخطابُ في القراءةِ المشهورة لهم أيضاً بطريقِ الالتفاتِ لكن الظَّاهرُ أنَّه للرسولِ عليه السَّلامُ ومن معه من المؤمنينَ، وقيل: المرادُ بوعدِه تعالى ما جعل لهلاك كلِّ أُمَّةٍ من موعد معيَّنٍ وأجل مسمَّى كما في قوله تعالى: { { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ ٱلْعَذَابُ } [العنكبوت: 53] فتكون الجملةُ الأُولى حالية كانتْ أو اعتراضيةً مبـيِّنة لبطلانِ الاستعجالِ به ببـيان استحالةِ مجيئِه قبل وقته الموعود والجملةُ الأخيرةُ بـياناً لبطلانه ببـيانِ ابتناء على استطالةِ ما هو قصير عنده تعالى على الوجهِ الذي مرَّ بـيانُه فلا يكون في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تعرُّضٌ لإنكارِهم الذي دسُّوه تحت الاستعجال بل يكون الجوابُ مبنيًّا على ظاهر مقالِهم ويكتفى في ردِّ إنكارِهم ببـيان عاقبةِ من قبلهم من أمثالِهم. هذا وحملُ المستعجَلِ به على عذاب الآخرة وجعلُ اليَّومِ عبارةً عن يوم العذابِ المستطال لشدَّتِه أو عن أيام الآخرةِ الطَّويلةِ حقيقةً أو المُستطالة لشدَّةِ عذابها ممَّا لا يُساعده سباقُ النَّظمِ الجليلِ ولا سياقُه فإنَّ كُلاًّ منهما ناطقٌ بأنَّ المرادَ هو العذابُ الدُّنيويُّ وأن الزَّمانَ الممتدُّ هو الذي مرَّ عليهم قبل حلولِه بطريق الإملالِ لا الزَّمانُ المقارن له ألا يُرَى إلى قوله تعالى: { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } الخ، فإنه كما سلف من قوله تعالى: { { فَأمْلَيْتُ لِلْكَـٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } [الحج: 44ٍ] صريحٌ في أنَّ المراد هو الأخذُ العاجلُ الشَّديدُ بعد الإملاء المديدِ أي وكم من أهلِ قريةٍ فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه في الإعرابِ ورجع الضَّمائرِ والأحكامِ مبالغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ { أَمْلَيْتُ لَهَا } كما أمليتُ لهؤلاء حتَّى أنكرُوا مجيء ما وُعدوا من العذابِ واستعجلُوا به استهزاءً برسلِهم كما فعلَ هؤلاء { وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ } جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لكمال حلمِه تعالى ومشعرةٌ بطريق التَّعريضِ بظلم المستعجلينَ أي أمليتُ لها والحالُ أنَّها ظالمةٌ مستوجِبةٌ لتعجيل العقوبةِ كدأبِ هؤلاءِ { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب والنَّكالِ بعد طول الإملاءِ والإمهالِ وقولُه تعالى: { وَإِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ } اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ومصرِّحٌ بما أفاده ذلك بطريقِ التَّعريضِ من أنَّ مالَ أمر المُستعجلين أيضاً ما ذُكر من الأخذِ الوبـيلِ أي إلى حُكمي مرجعُ الكُلِّ جميعاً لا إلى أحدٍ غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعلُ ممَّا يليقُ بأعمالِهم.

{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أنذركم إنذاراً بـيِّناً بما أُوحي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكونَ لي دخل في إتيانِ ما تُوعدونه من العذاب حتَّى تستعجلوني به والاقتصارُ على الإنذارِ مع بـيان حالِ الفريقين بعدَه لما أُشير إليه من أنَّ مساقَ الحديث للمشركين وعقابِهم وإنَّما ذُكر المؤمنون وثوابُهم زيادةً في غيظهم.