التفاسير

< >
عرض

لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٤
وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
٥٥
-الحج

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى ٱلشَّيْطَـٰنُ } علَّة لما يُنبىء عنه ما ذُكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حقِّ النبـيِّ عليه السلام خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النَّظمِ الكريم لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائر الأنبـياء عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل { فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى: { { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } [البقرة: 10] الآيةَ { وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } أي المشركين { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي الفريقينِ المذكورينِ، فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظُّلمِ مع ما وُصفوا به من المرض والقساوةِ { لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ، ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذيـيليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.

{ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ أَنَّهُ } أي القرآنَ { ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ } أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى، وقيل: ليعلمُوا أنَّ تمكينَ الشَّيطانِ من الإلقاءِ هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَّا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لَدُن آدمَ عليه السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلقاءِ في حقِّه عليه السَّلامُ لكن يأباه قولُه تعالى: { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } أي بالقرآنِ أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيماناً بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي، ورجعُ الضَّميرِ لا سيَّما الثَّاني إلى تمكينِ الشَّيطانِ من الإلقاء ممَّا لا وجه له { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } أي في الأمورِ الدِّينيةِ خُصوصاً في المداحض والمشكلاتِ التي من جُملتها ما ذكر { إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله.

{ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ } أي في شكَ وجدال { مِنْهُ } أي من القرآن وقيل: من الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قوله تعالى: { { ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ ءايَـٰتِهِ } [الحج: 52] وقوله تعالى: { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } [الحج: 54] وما لحقَ من قوله تعالى: { { وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } [الحج: 57] وأمَّا تجويزُ كون الضَّميرِ لما ألقى الشَّيطانُ في أمنيَّتِه فممَّا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هَنَاتِهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القُرآن ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببـيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليست ناشئةً منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم.

{ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذن قوله تعالى: { بَغْتَةً } أي فجأةً فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطُها وقيل: الموت { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيماً. والمرادُ به السَّاعةُ أيضاً كأنَّه قيل: أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبـيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطِها لما عرفتَه. وأمَّا ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النِّساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيماً أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعاً أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم يُنشىء مطراً ولم يلقح شَجراً أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَّا لا يساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ أصلاً كيفَ لا وإنَّ تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عزَّ وجلَّ ثم بـيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بـين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الأُخرويـينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بـيِّناً لا ريبَ فيه.