التفاسير

< >
عرض

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
٩٨
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ
٩٩
لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٠٠
فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ
١٠١
-المؤمنون

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } أُمر عليه السَّلامُ بأنْ يعوذَ به تعالى من حضورِهم بعد ما أُمر بالعوذِ به من همزاتِهم للمبالغة في التَّحذيرِ من مُلابستهم. وإعادةُ الفعلِ مع تكريرِ النِّداءِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بالمأمورِ به وعرضِ نهايةِ الابتهالِ في الاستدعاءِ، أي أعوذُ بك مِن أنْ يحضرونِي ويحومُوا حولي في حالٍ من الأحوالِ. وتخصيصُ حالِ الصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ كما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وحالِ حلولِ الأجلِ كما رُوي عن عكرمةَرحمه الله لأنَّها أحرى الأحوالِ بالاستعاذةِ منها.

{ حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشَّرطيَّةِ وهي مع ذلك غايةٌ لما قبلها متعلِّقةٌ بـيصفُون وما بـينهُما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإغضاءِ بالاستعاذة به تعالى من الشَّياطين أنْ يزلُّوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الحِلْمِ ويُغروه على الانتقام لكنْ لا بمعنى أنَّه العاملُ فيه لفساد المعنى، بل بمعنى أنَّه معمولٌ لمحذوفٍ يدلُّ عليه ذلك. وتعلُّقها بكاذبونَ في غاية البُعدِ لفظاً ومعنى، أي يستمرُّون على الوصف المذكورِ حتَّى إذا جاءَ أحدَهم أيَّ أحدٍ كان الموتُ الذي لا مرَدَّ له وظهرتْ له أحوالُ الآخرةِ { قَالَ } تحسُّراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمانِ والطَّاعةِ { رَبّ ٱرْجِعُونِ } أي رُدَّني إلى الدُّنيا. والواوُ لتعظيم المخاطَبِ وقيل: لتكرير قوله ارجعنِي كما قيل في: قِفَا نَبْكِ، ونظائرِه.

{ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } أي في الإيمان الذي تركتُه لم ينظمه في سلك الرَّجاءِ كسائر الأعمالِ الصَّالحةِ بأنْ يقولَ لعلِّي أُومنُ فأعملَ الخ، للإشعارِ بأنَّه أمرٌ مقرَّرُ الوقوعِ غنيٌّ عن الإخبارِ بوقوعِه قطعاً فضلاً عن كونِه مرجوَّ الوقوعِ أي لعلي أعملُ في الإيمانِ الذي أتى به البتةَ عملاً صالحاً وقيل: فيما تركتُه من المالِ أو من الدُّنيا وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إذا عاين المؤمنُ الملائكةَ قالوا: أنرجعك إلى الدُّنيا؟ فيقول: إلى دار الهُموم والأحزانِ بل قُدوماً إلى الله تبارك وتعالى وأمَّا الكافرُ فيقول: أرجعونِي" . { كَلاَّ } ردعٌ عن طلب الرَّجعةِ واستبعادٌ لها { أَنَّهَا } أي قوله: ربِّ ارجعون الخ { كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } لا محالةَ لتسلُّط الحسرة عليه { وَمِن وَرَائِهِمْ } أي أمامَهم والضَّميرُ لأحدِهم والجمعُ باعتبار المعنى لأنَّه في حُكم كلِّهم كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللَّفظِ { بَـرْزَخٌ } حائلٌ بـينهم وبـين الرَّجعةِ { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يوم القيامةِ وهو إقناطٌ كُلِّيٌّ عن الرَّجعة إلى الدُّنيا لما عُلم أنَّه لا رجعة يومَ البعثِ إلى الدُّنيا وإنَّما الرَّجعةُ يومئذٍ إلى الحياةِ الأُخرويَّةِ.

{ فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } لقيام السَّاعة وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ التي يقع عندها البعث والنُّشورُ وقيل: المعنى فإذا نُفخ في الأجساد أرواحُها على أنَّ الصُّورَ جمع الصُّورةِ لا القَرنِ، ويؤيِّده القراءةُ بفتحِ الواوِ وبه مع كسرِ الصَّادِ { فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ } تنفعُهم لزوال التَّراحُمِ والتَّعاطُفِ من فرط الحيرة واستيلاءِ الدَّهشةِ بحيث يفرُّ المرءُ من أخيه وأمِّه وأبـيه وصاحبتِه وبنيهِ أو لا أنسابَ يفتخرون بها { يَوْمَئِذٍ } كما هي بـينُهم اليَّومَ { وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } أي لا يسألُ بعضُهم بعضاً لاشتغالِ كلَ منهُم بنفسِه ولا يناقضُه قولُه تعالى: { { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } [الصافات: 50] لأنَّ هذا عند ابتداءِ النَّفخةِ الثَّانيةِ وذلك بعد ذلك.