التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٢١
وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٢٢
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٢٣
-المؤمنون

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ لَعِبْرَةً } بـيان النِّعم الفائضة عليهم من جهة الحيوانِ إثرَ بـيانِ النِّعم الواصلةِ إليهم من جهة الماءِ والنَّبات وقد بُـيِّن أنَّها مع كونِها في نفسِها نعمةً ينتفعون بها على وجوهٍ شَتَّىٰ عبرةٌ لا بدَّ من أنْ يعتبرُوا بها ويستدلُّوا بأحوالها على عظيم قُدرة اللَّهِ عزَّ وجلَّ وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخُصَّ هذا بالحيوان لما أنَّ محلَّ العبرة فيه أظهرُ ممَّا في النَّباتِ. وقولُه تعالى: { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا } تفصيلٌ لما فيها من مواقعِ العبرةِ وما في بطونِها عبارة إمَّا عن الألبانِ فمِن تبعيضيةٌ. والمرادُ بالبطونِ الجَوفُ، أو عن العلف الذي يتكوَّن منه اللَّبنُ فمن ابتدائيةٌ والبطون على حقيقتها. وقُرىء بفتح النُّونِ وبالتَّاءِ أي تسقيكم الأنعامُ. { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ كَثِيرَةٌ } غيرُ ما ذُكر من أصوافِها وأشعارِها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصُل منها.

{ وَعَلَيْهَا } أي على الأنعامِ فإنَّ الحملَ عليها لا يقتضي الحملَ على جميعِ أنواعِها بل يتحقَّقُ بالحمل على البعضِ كالإبل ونحوِها. وقيل المرادُ هي الإبلُ خاصَّة لأنَّها هي المحمولُ عليها عندهم والمناسبُ للفلك فإنَّها سفائنُ البرِّ قال ذُو الرُّمَّةِ: [الطويل]

طُروقاً وجَلْبُ الرحلِ مشدودة بهِ سفينةُ بَرٍّ تحتَ خَدِّي زِمامُها

فالضَّميرُ فيهِ كما في قوله تعالى: { { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } [البقرة: 228] { وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } أي في البرِّ والبحرِ. وفي الجمع بـينها وبـين الفُلكِ في إيقاع الحملِ عليها مبالغةٌ في تحمُّلِها للحملِ وهو الدَّاعي إلى تأخير ذكرِ هذه المنفعةِ مع كونِها من المنافعِ الحاصلةِ منها عن ذكرِ منفعةِ الأكلِ المتعلِّقة بعينِها.

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ } شروعٌ في بـيانِ إهمال الأُمم السَّابقةِ وتركهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّد من النِّعمِ الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاقَ بهم لذلك من فُنون العذاب تحذيراً للمُخاطبـين. وتقديمُ قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ مما لا يخفى وجهُه، وفي إيرادِها إثرَ قوله تعالى: { وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [المؤمنون: 22] من حُسنِ الموقع ما لا يُوصف. والواوُ ابتدائيةٌ واللاَّمُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ. وتصديرُ القِصَّةِ به لإظهارِ كمالِ الاعتناء بمضمونها أي وباللَّهِ لقد أرسلنا نوحاً الخ. ونسبهُ الكريمُ وكيفيَّةُ بعثهِ وكميَّةُ لبثهِ فيما بـينهم قد مرَّ تفصيله في سُورة الأعرافِ وسُورة هُودٍ { فَقَالَ } متعطِّفاً عليهم ومستميلاً لهم إلى الحقِّ { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أي اعبدوه وحدَه كما يُفصح عنه قوله تعالى في سُورة هود: { { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ } [هود: 26] وتركَ التَّقيـيدِ به للإيذان بإنَّها هي العبادةُ فقط وأما العبادة بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ رأساً. وقولُه تعالى: { مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } استئنافٌ مسوقٌ لتعليل العبادة المأمورِ بها أو تعليلِ الأمرِ بها. وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإلٰهٍ باعتبارِ محلِّه الذي هو الرَّفعُ على أنَّه فاعلٌ، أو مبتدأٌ خبرُه لكُم، أو محذوفٌ. ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبـيـينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إلٰهٌ غيرُه تعالى. وقُرىء بالجرِّ باعتبار لفظه { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أنفسَكم عذابَه الذي يستوجبه ما أنتُم عليه من ترك عبادتهِ تعالى كما يُفصح عنه قولُه تعالى: { { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأحقاف: 21] وقولُه تعالى: { { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26] وقيل أفلا تخافون أنْ ترفضُوا عبادة الله الذي هو ربُّكم الخ. وليس بذاكَ وقيل أفلا تخافون أنْ يُزيل عنكم نعمَه الخ وفيهِ ما فيهِ والهمزةِ لإنكارِ الواقعِ واستقباحهِ. والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أتعرفون ذلك أي مضمونَ قوله تعالى: { مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } فلا تتَّقون عذابَه بسبب إشراكِكم به في العبادة ما لا يستحقُّ الوجودَ لولا إيجادُ الله تعالى إيَّاهُ فضلاً عن استحقاقِ العبادة فالمنكر عدمُ الاتِّقاءِ مع تحقُّق ما يُوجبه، أو ألا تلاحظُون ذلكَ فلا تتَّقُونه فالمنكرُ كلا الأمرينِ فالمبالغةُ حينئذٍ في الكميَّةِ وفي الأوَّلِ في الكيفيَّةِ.