التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
٤٢
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٤٣
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٤٤
-المؤمنون

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي بعد هلاكِهم { قُرُوناً ءاخَرِينَ } هم قومُ صالحٍ ولوطٍ وشُعيبٍ عليهم السَّلامُ وغيرُهم.

{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي ما تتقدَّمُ أمةٌ من الأُممِ المهلَكةِ الوقت الذي عُيِّن لهلاكِهم أي ما تهلكُ أمةٌ قبل مجيءِ أجلِها { وَمَا يَسْتَـئْخِرُونَ } ذلك الأجلَ بساعةٍ.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } عطفٌ على أنشأنا لكنْ لا على مَعْنى أنَّ إرسالَهم مُترَاخٍ عن إنشاء القُرون المذكورةِ جميعاً بل على مَعْنى أنَّ إرسالَ كلِّ رسولٍ متأخِّرٌ عن إنشاءِ قرنٍ مخصُوصٍ بذلك الرَّسولِ، كأنَّه قيل: ثمَّ أنشأنا من بعدِهم قُروناً آخرينَ قد أرسلنا إلى كلِّ قرنٍ منهُم رسولاً خاصًّا بهِ. والفصلُ بـين المعطوفينِ بالجملة المعترِضةِ النَّاطقةِ لعدم تقدُّمِ الأممِ أجلَها المضروبَ لهلاكِهم للمسارعةِ إلى بـيان هلاكِهم على وجهٍ إجماليَ { تَتْرَى } أي متواتِرينَ واحداً بعد واحدٍ من الوِتْرِ وهو الفَردُ. والتَّاءُ بدلٌ من الواوِ كما في تولج وينقوا. والألفُ للتأنيثِ باعتبار أنَّ الرُّسلَ جماعةٌ. وقُرىء بالتَّنوينِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً. وقولُه تعالى: { كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } استئنافٌ مبـيِّنٌ لمجيء كلِّ رسولٍ لأمَّتِه ولما صدرَ عنهم عند تبليغِ الرِّسالةِ. والمرادُ بالمجيءِ إمَّا التَّبليغُ وإمَّا حقيقةُ المجيء للإيذانِ بأنَّهم كذَّبوه في أوَّلِ المُلاقاة. وإضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافة كلِّهم فيما سبق إلى نُونِ العظمةِ لتحقيق أنَّ كلَّ رسولٍ جاء أُمَّته الخاصَّةَ به لا أنَّ كلَّهم جاءوا كلَّ الأممِ، والإشعارِ بكمالِ شناعتِهم وضلالِهم حيثُ كذَّبتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المعيَّنِ لها. وقيل: لأنَّ الإرسالَ لائقٌ بالمرسلِ والمجيءُ بالمرسلِ إليهم { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } في الهلاكِ حسبما تبع بعضُهم بعضاً في مباشرة أسبابِه التي هي الكفرُ والتَّكذيبُ وسائرُ المعاصي { وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ } لم يبقَ منهم إلا حكاياتٌ يعتبر بها المعتبرون وهو اسمُ جمعٍ للحديثِ أو جمعُ أُحدوثةٍ وهي ما يُتحدَّثُ به تَلهِّياً كأعاجيبَ جمعُ أُعجوبةٍ وهي ما يُتعجَّبُ منه أي جعلناهم أحاديثَ يُتحدَّثُ بها تَلهِّياً وتعجُّباً { فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } اقتصر هٰهنا على وصفهم بعدمِ الإيمانِ حسبما اقتصر على حكايةِ تكذيبهم إجمالاً. وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقل عنهم ما مرَّ من الغُلوِّ وتجاوزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ وُصفوا بالظُّلمِ.