التفاسير

< >
عرض

فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ
٤٨
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٤٩
وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
٥٠
-المؤمنون

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَكَذَّبُوهُمَا } أي فتموا على تكذيبهما وأصرُّوا واستكبروا استكباراً { فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ } بالغرقِ في بحرِ قُلْزم.

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا } أي بعد إهلاكِهم وإنجاءِ بني إسرائيلَ من ملكتهم { مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ } أي التَّوارةَ، وحيث كان إيتاؤُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها لإرشاد قومِه إلى الحقِّ كما هو شأنُ الكتبِ الإلٰهيَّةِ جعلوا كأنَّهم أُوتوها فقيلَ: { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي إلى طريق الحقِّ بالعمل بما فيها من الشَّرائعِ والأحكام، وقيل: أُريد آتينا قومَ مُوسى فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه كما في قوله تعالى: { { عَلَىٰ خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [يونس: 83] أي من آلِ فرعونَ وملئهم ولا سبـيلَ إلى عود الضَّميرِ إلى فرعونَ وقومه لظهور أنَّ التَّوراةَ إنَّما نزلتْ بعد إغراقِهم لبني إسرائيلَ وأمَّا الاستشهادُ على ذلك بقوله: { { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ } [القصص: 43] فممَّا لا سبـيلَ إليه ضرورةَ أنْ ليس المرادُ بالقرونِ الأُولى ما يتناولُ قومَ فوعونَ بل من كان قبلهم من الأمم المُهلكةِ خاصَّةً كقومِ نوحٍ وقومِ هُودٍ وقومِ صالحٍ وقومِ لوطٍ كما سيأتي في سورة القصص.

{ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } وأيّةَ آيةٍ دالَّة على عظيمِ قُدرتِنا بولادتِه منها من غير مسيسِ بشرٍ فالآيةُ أمرٌ واحدٌ نُسب إليهما أو جعلنا ابنَ مريمَ آيةً بأنْ تكلَّم في المهدِ فظهرتْ منه معجزاتٌ جمَّةٌ وأمَّه آيةً بأنَّها ولدتْهُ من غير مسيسٍ فحذفت الأولى لدلالة الثَّانيةِ عليها. والتَّعبـيرُ عنهما بما ذُكر من العُنوانينِ وهما كونُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابنَها وكونُها أمَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ بحيثيةِ كونِهما آيةً فإنَّ نسبتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليها مع أنَّ النَّسبَ إلى الآباءِ دالة على أنَّ لا أبَ له أي جعلنا ابنَ مريمَ وحدَها من غيرِ أنْ يكونَ له أبٌ وأمه التي ولدته خاصَّةً من غيرِ مشاركةِ الأبِ آيةً. وتقديمُه عليه الصِّلاةُ والسَّلامُ لأصالتِه فيما ذُكر من كونِه آيةً كما أنَّ تقديمَ أمِّه في قولِه تعالى: { { وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 91] لأصالتِها فيما نُسب إليها من الإحسانِ والنَّفخِ.

{ وَآوَيناهُمَا إِلَى ربوَةٍ } أي أرضٍ مُرتفعةٍ. قيل: هي إيليا أرضُ بـيتِ المقدسِ فإنَّها مرتفعةٌ وأنها كبدُ الأرضِ وأقربُ الأرضِ إلى السَّماءِ بثمانيةَ عشرَ ميلاً على ما يُروى عن كعبٍ. وقيل: دمشقُ وغوطتُها. وقيل: فِلسطينُ والرَّملةُ. وقيل: مصرُ فإنَّ قُراها على الرُّبا. وقُرىء بكسرِ الرَّاءِ وضمِّها ورِباوةٍ بالكسرِ والضَّمِّ { ذَاتِ قَرَارٍ } مستقرَ من أرضٍ منبسطةٍ سهلةٍ يستقرُّ عليها ساكنُوها. وقيل: ذاتِ ثمارٍ وزروعٍ لأجلها يستقرُّ فيها ساكنُوها { وَمَعِينٍ } أي وماءٍ مَعينٍ ظاهرٍ جارٍ. فعيلٌ من مَعنَ الماءُ إذا جَرى، وأصلُه الإبعادُ في المشيِ، أو من الماعونِ وهو النَّفعُ لأنَّه نَفَّاعٌ. أو مفعولٌ من عانَه إذا أدركَه بالعَينِ فإنَّه لظهورِه يُدرك بالعُيونِ. وُصف ماؤُها بذلك للإيذانِ بكونِه جامعاً لفُنون المنافعِ من الشُّربِ وسقيِ ما يُسقى من الحيوان والنَّباتِ بغيرِ كُلفةٍ، والتنزُّهِ بمنظرِه المُونقِ.