التفاسير

< >
عرض

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١
ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢
-النور

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة النور

مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية

{ سُورَةٌ } خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هذه سورةٌ وإنَّما أُشير إليها مع عدمِ سبقِ ذكرِها لأنَّها باعتبار كونِها في شرف الذِّكرِ في حُكم الحاضرِ المُشاهَدِ. وقولُه تعالَى: { أَنزَلْنَـٰهَا } معَ ما عُطف عليه صفاتٌ لها مؤكِّدةٌ لما أفادَهُ التَّنكيرُ من الفخامة من حيثُ الذَّاتُ بالفخامة من حيثُ الصِّفاتُ. وأمَّا كونُها مبتدأً محذوفَ الخبرِ على أنْ يكونَ التَّقديرُ فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها فيأباهُ أنَّ مُقتضى المقام بـيانِ شأنِ هذه السُّورةِ الكريمةِ لا أنَّ في جُملة ما أُوحي إلى النبـيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سورةً شأنُها كَذا وكَذا، وحملُها على السُّورةِ الكَريمةِ بمعونةِ المقامِ يُوهم أنَّ غيرَها من السُّورِ الكريمةِ ليستْ على تلكَ الصِّفاتِ، وقُرىء بالنَّصبِ على إضمارِ فعلٍ يُفسِّره أنزلناهَا فلا محلَّ له حينئذٍ من الإعرابِ أو على تقديرِ اقرأْ ونحوِه أو دُونَك من يُسوِّغُ حذفَ أداةِ الإغراءِ فمحلُّ أنزلنا النَّصبُ على الوصفيَّةِ { وَفَرَضْنَـٰهَا } أي أوجبنَا ما فيها من الأحكامِ إيجاباً قطعيًّا، وفيه من الإيذانِ بغايةِ وكادةِ الفرضيَّةِ ما لا يَخْفى. وقُرىءَ فرَّضناها بالتَّشديدِ لتأكيدِ الإيجابِ أو لتعددِ الفرائضِ أو لكثرةِ المفروضِ عليهم من السَّلفِ والخلفِ { وَأَنزَلْنَا فِيهَا } أي في تضاعيفِ السُّورةِ { ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ } إنْ أُريد بها الآياتُ التي نِيطتْ بها الأحكامُ المفروضةُ وهو الأظهرُ فكونُها في السُّورةِ ظاهرٌ ومعنى كونِها بـيناتٍ وضوحُ دلالاتِها على أحكامِها لا على الإطلاقِ فإنَّها أسوةٌ لسائرِ الآياتِ في ذلكَ، وتكريرُ أنزلنا معَ استلزام إنزالِ السُّورةِ لإنزالِها لإبرازِ كمالِ العنايةِ بشأنِها وإنْ أُريد جميعُ الآياتِ فالظَّرفيةُ باعتبارِ اشتمالِ الكلِّ على كلِّ واحدٍ من أجزائِه، وتكريرُ أنزلنا مع أنَّ جميعَ الآياتِ عينُ السُّورةِ وإنزالها لاستقلالها بعنوانٍ رائقٍ رادعٍ إلى تخصيصِ إنزالِها بالذِّكرِ إبانةً لخطرِها ورفعاً لمحلِّها كقولِه تعالى: { { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود: 58] بعد قولِه تعالى: { نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } بحذفِ إحدى التَّاءينِ. وقُرىء بإدغامِ الثَّانيةِ في الذَّالِ أي تَتذكَّرونها فتعملونَ بموجبِها عند وقوعِ الحوادثِ الدَّاعيةِ إلى إجراءِ أحكامِها وفيه إيذانٌ بأنَّ حقَّها أنْ تكونَ على ذكرٍ منهم بحيثُ مَتَى مسَّتِ الحاجةُ إليها استحضرُوها.

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى } شُروعٌ في تفصيلِ ما ذُكِر منَ الآياتِ البـيِّناتِ وبـيانِ أحكامِها، والزَّانيةُ هي المرأةُ المُطاوِعةُ للزِّنا الممكِّنةُ منه كما تُنبىء عنه الصِّيغةُ لا المزنيةُ كُرهاً وتقديمُها على الزَّاني لأنَّها الأصلُ في الفعل لكونِ الدَّاعيةِ فيها أوفرَ ولولا تمكينُها منه لم يقعْ. ورفعُهما على الابتداءِ، والخبرُ قولُه تعالى: { فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشَّرطِ إذِ اللاَّمُ بمعنى الموصولِ والتَّقديرُ التي زنتْ والذي زَنى كما في قوله تعالى: { { وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَـئَاذُوهُمَا } [النساء: 16] وقيل الخبرُ محذوفٌ أي فيما أنزلنا أو فيما فرضنا الزانيةُ والزَّاني أي حُكمهُما. وقولُه تعالى { فَٱجْلِدُواْ } الخ بـيانٌ لذلكَ الحُكمِ وكانَ هذا عامًّا في حقِّ المُحصنِ وغيرِه وقد نُسخَ في حقِّ المحصنِ قَطْعاً ويكفينا في تعيـينِ النَّاسخِ القطعُ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد رجمَ ماعِزاً وغيره فيكونُ من بابِ نسخِ الكتابِ بالسُّنَّةِ المشهُورةِ. وفي الإيضاحِ الرَّجمُ حكمٌ ثبتَ بالسنَّةِ المشهورةِ المتفقِ عليها فجازتِ الزيادةُ بها على الكتابِ ورُوي عن عليَ رضي الله عنهُ: جلدتُها بكتابِ اللَّهِ ورجمتُها بسنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وقيلَ نُسخ بآيةٍ منسوخةِ التِّلاوةِ هي «الشَّيخُ والشَّيخةُ إذا زنيا فارجمُوهما البتة نكالاً من اللَّهِ واللَّهُ عزيزٌ حكيمٌ» ويأباهُ ما رُوي عن عليَ رضي الله عنهُ. { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } وقُرىء بفتحِ الهمزةِ وبالمدِّ أيضاً على فَعَالةٍ أي رحمةٌ ورقَّةٌ. { فِى دِينِ ٱللَّهِ } في طاعتهِ وإقامةِ حدِّه فتُعطِّلوه أو تُسامحوا فيهِ وقد قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لو سرقتْ فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ لقطعتُ يدها" . { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } منْ بابِ التَّهيـيج والإلهابِ فإنَّ الإيمانَ بهما يقتضي الجدَّ في طاعته تعالى والاجتهادَ في إجراءِ أحكامِه. وذكرُ اليومِ الآخرِ لتذكيرِ ما فيهِ من العقابِ في مقابلةِ المُسامحةِ والتَّعطيلِ.

{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لتحضره زيادةً في التَّنكيلِ، فإنَّ التَّفضيحَ قد يُنكِّلُ أكثرَ ممَّا يُنكلُّ التَّعذيبُ والطَّائفةُ فرقةٌ يُمكن أنْ تكونَ حافَّةً حولَ شيءٍ من الطَّوفِ وأقلُّها ثلاثةٌ كما رُوي عن قتادة. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أربعةٌ إلى أربعينَ. وعن الحسنِ عشرةٌ والمرادُ جمعٌ يحصلُ بهِ التَّشهيرُ والزَّجرُ.