التفاسير

< >
عرض

رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٨
-النور

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قولُه تعالى: { رِجَالٌ } فاعلُ يسبِّح، وتأخيرُه عن الظُّروفِ لما مرَّ مراراً من الاعتناءِ بالمقدَّم والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في وصفه نوع طُولٍ فيُخلُّ تقديمُه بحسن الانتظام. وقُرىء يُسبِّح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظُّروف. ورجالٌ مرفوعٌ بما ينبىءُ عنه حكايةُ الفعلِ من غير تسميةِ الفاعل على طريقة قوله: [الطويل]

ليُبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ[ومُخْتبطٌ مِمَّا تُطيحُ الطوائحُ]

كأنه قيل: مَنْ يُسبِّح له؟ فقيل: يُسبِّح له رجالٌ. وقُرىء تُسبِّح بتأنيثِ الفعلِ مبنيًّا للفاعلِ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ قد يُعامل معاملةَ المؤنَّثِ ومبنياً للمفعول على أنْ يُسندَ إلى أوقات الغُدوِّ والآصالِ بزيادة الباءِ وتجعلُ الأوقاتُ مسبِّحةً مع كونِها فيها أو يُسند إلى ضميرِ التَّسبـيحةِ أي تُسبَّح له التَّسبـيحةُ على المجازِ المسوِّغ لإسناده إلى الوقتينِ كما خرَّجُوا قراءة أبـي جَعفرٍ ليُجزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قَوْماً بل هذا أولى من ذلك إذْ ليس هنا مفعولٌ صريحٌ { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ } صفةٌ لرجالٌ مؤكِّدةٌ لما أفادَه التَّنكيرُ من الفخامةِ مفيدةٌ لكمال تبتُّلِهم إلى الله تعالى واستغراقهم فيما حُكي عنهم من التَّسبـيحِ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم كائناً ما كان وتخصيصُ التِّجارةِ بالذِّكرِ لكونِها أقوى الصَّوارفِ عندهم وأشهرَها أي لا يشغلُهم نوعٌ من أنواعِ التِّجارةِ { وَلاَ بَيْعٌ } أي ولا فردٌ من أفراد البـياعاتِ وإنْ كان في غايةِ الرِّبحِ. وإفرادُه بالذِّكرِ مع اندراجِه تحت التِّجارة للإيذانِ بإنافتِه على سائرِ أنواعِها لأنَّ ربحَهُ متيقَّنٌ ناجزٌ وربحُ ما عداه متوقَّعٌ في ثاني الحال عند البـيع فلم يلزمْ من نفيِ إلهاءِ ما عداه نفيُ إلهائِه ولذلك كُرِّرت كلمةُ لا لتذكيرِ النَّفيِ وتأكيدِه وقد نُقل عن الواقديِّ أنَّ المرادَ بالتِّجارة هو الشِّراءُ لأنَّه أصلُها ومبدؤها. وقيل: هو الجَلَبُ لأنَّه الغالبُ فيها ومنه يُقال: تَجَر في كَذا أي جَلَبه.

{ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } بالتَّسبـيحِ والتَّحميدِ { وإِقَامِ ٱلصَّلوٰة } أي إقامتِها لمواقيتها من غير تأخيرٍ وقد أُسقطتْ التَّاءُ المُعوِّضةُ عن العينِ السَّاقطةِ بالإعلال وعُوِّض عنها الإضافةُ كما في قوله: [البسيط]

[إن الخليط أجدُّوا البينَ فانجردوا]وَأَخْلفُوك عِدَ الأَمْرِ الذي وَعدُوا

أي عدةَ الأمرِ { وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ } أي المال الذي فُرض إخراجُه للمستحقِّين، وإيرادُه هٰهُنا وإنْ لم يكن ممَّا يُفعل في البـيوت لكونِه قرينةً لا تُفارق إقامةَ الصَّلاةِ في عامَّة المواضع مع ما فيه من التَّنبـيه على أنَّ محاسنَ أعمالِهم غيرُ منحصرةٍ فيما يقعُ في المساجدِ وكذلك قوله تعالى: { يَخَافُونَ } الخ، فإنه صفةٌ ثانيةٌ لرجالٌ أو حالٌ من مفعول لا تُلهيهم، وأيًّا ما كان فليس خوفُهم مقصُوراً على كونِهم في المساجد وقوله تعالى: { يَوْماً } مفعولُ ليخافون لا ظرفٌ له. وقولُه تعالى: { تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَـٰرُ } صفةٌ ليوماً أي تضطربُ وتتغيرُ في أنفسها من الهول والفزعِ وتشخصُ كما في قولِه تعالى: { { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10] أو تتغيرُ أحوالُها وتتقلَّب فتتفقّه القلوبُ بعد أن كانتْ مطبوعاً عليها وتُبصر الأبصارُ بعد أنْ كانت عمياءَ أو تتقلَّب القلوبُ بـين توقُّعِ النَّجاةِ وخوفِ الهلاكِ والإبصار من أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ويُؤتى كتابُهم.

{ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ } متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي يفعلُون ما يفعلُون من المُداومة على التَّسبـيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم حسبما وعد لهم بمقابلةِ حسنةٍ واحدةٍ عشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي يتفضَّلُ عليهم بأشياءَ لم تُوعد لهم بخصوصيَّاتِها أو بمقاديرِها ولم تخطُر ببالِهم كيفيَّاتُها ولا كميَّاتُها بل إنَّما وُعدت بطريقِ الإجمالِ في مثل قوله تعالى: { { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] وقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حكايةً عنه عزَّ وجلَّ: "أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ" وغيرِ ذلك من المواعيدِ الكريمةِ التي مِن جُملتِها قولُه تعالى: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } فإنَّه تذيـيلٌ مقرِّرٌ للزيادة ووعدٌ كريم بأنَّه تعالى يُعطيهم غيرَ أجزيةِ أعمالِهم من الخيرات ما لا يفي من الحساب وأما عدمُ سبقِ الوعدَ بالزِّيادة ولو إجمالاً وعدمُ خُطورِها ببالِهم ولو بوجهٍ ما فيأباهُ نظمُها في سلك الغايةِ. والموصولُ عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الجميلةُ كأنَّه قيل: والله يرزقُهم بغير حسابٍ، ووضعه موضعَ ضميرهم للتَّنبـيه بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ مناطَ الرِّزقِ المذكُور محضُ مشيئتِه تعالى لا أعمالُهم المحكيَّةُ كما أنَّها المناطُ لما سبقَ من الهداية لنوره تعالى لا لتظاهر الأسباب وللإيذان بأنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يرزقَهم كما أنَّهم ممَّن شاءَ الله تعالى أنْ يهديَهم لنُوره حسبَما يُعرب عنه ما فُصِّل من أعمالهم الحسنةِ فإنَّ جميعَ ما ذُكر من الذِّكرِ والتَّسبـيحِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وخوفِ اليوم الآخرِ وأهوالِه ورجاءِ الثَّوابِ مقتبسٌ من القُرآن الكريم الذي هو المعنيُّ بالنُّور وبه يتمُّ بـيانُ أحوالِ مَن اهتدى بهُداه على أوضحِ وجهٍ وأجلاه هذا، وقد قيل: قوله تعالى: { فِى بُيُوتٍ } الخ، من تتمة التَّمثيلِ وكلمةُ في متعلَّقةٌ بمحذوفٍ هي صفة لمشكاةٍ أي كائنةٍ في بـيوتٍ، وقيل: لمصباح، وقيل: لزجاجة، وقيل: متعلِّقةٌ بـيُوقَد والكلُّ مما لا يليقُ بشأن التَّنزيلِ الجليلِ كيف لا وأنَّ ما بعد قولِه تعالى: { { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور: 35] على ما هو الحقُّ أو ما بعد قوله تعالى: { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [النور: 35] على ما قيل إلى قولِه تعالى: { { بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } [النور: 35] كلامٌ متعلِّقٌ بالمُمَثَّل قطعاً فتوسيطُه بـين أجزاءِ التَّمثيل ـ مع كونِه من قبـيل الفصل بـين الشَّجر ولحائِه بالأجنبـيِّ ـ يؤدِّي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتَّمثيلِ المهديِّـينَ بنور القُرآن الكريم بطريق الاستتباعِ والاستطرادِ مع كون بـيانِ أضدادِهم مقصوداً بالذَّاتِ، ومثلُ هذا ممَّا لا عهدَ به في كلام النَّاسِ فضلاً أنْ يُحملَ عليه الكلامُ المعجِزُ.