التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
٢١
-الفرقان

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلأَسْوَاقِ } جوابٌ عن قولهم: { { مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7] والجملةُ الواقعةُ بعد إلاَّ صفةٌ لموصوفٍ قد حُذف ثقةً بدلالة الجارِّ والمجرورِ عليه وأقيمتْ هي مقامَه كما في قوله تعالى: { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] والمعنى ما أرسلَنا أحداً قبلكَ من المُرسلين إلا آكلينَ وماشينَ وقيل: في حالٌ، والتَّقديرُ إلاَّ وإنَّهم ليأكلون الخ وقُرىء يُمشَون على البناء للمفعول أي يُمشيهم حوائجُهم أو النَّاسُ. { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ } تلوينٌ للخطاب بتعميمِه لسائر الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ بطريق التَّغليبِ، والمرادُ بهذا البعضِ كفَّارُ الأممِ فإنَّ اختصاصَهم بالرُّسل وتبعيتهم لهم مصحِّحٌ لأنْ يعدُّوا بعضاً منهم وبما في قوله تعالى: { لِبَعْضٍ } رسلِهم لكن لا على معنى جعلنا مجموعَ البعضِ الأولِ { فِتْنَةً } أي ابتلاءً ومحنةً لمجموعِ البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا كلَّ فردٍ من أفراد البعض الأول فتنةً لكلِّ فردٍ من أفراد البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا بعضاً مُبهماً من الأوَّلينَ فتنةً لبعضٍ مُبهمٍ من الآخرين ضرورةَ أنَّ مجموعَ الرُّسل من حيثُ هو مجموعٌ غيرُ مفتونٍ بمجموعِ الأُممِ ولا كلُّ فردٍ منهم بكلِّ فردٍ من الأمم ولا بعض مبهمٌ من الأوَّلين لبعضِ مُبهمٍ من الآخرينَ بل على معنى جعلنا كلَّ بعضً مُعيَّنٍ من الأُمم فتنةً لبعض معَّين من الرُّسلِ كأنَّه قيل: وجعلنا كلَّ أمَّةٍ مخصوصةٍ من الأُممِ الكافرةِ فتنةً لرسولِها المعيَّنِ المبعوثِ إليها وإنَّما لم يُصرِّح بذلك تعويلاً على شهادةِ الحالِ. هذا وأمَّا تعميمُ الخطابِ لجميع المكلَّفين وإبقاء البعضين على العمومِ والإبهامِ على معنى وجعلنا بعضَكم أيُّها فتنةً لبعضٍ آخرَ منكم فيأباهُ قولُه تعالى: { أَتَصْبِرُونَ } فإنَّه غايةٌ للجعلِ المذكورِ، ومن البـيِّنِ أنْ ليسَ ابتلاءُ كلِّ أحدٍ من آحادِ النَّاسِ مُغيًّا بالصَّبرِ بل بما يناسبُ حالَه على أنَّ الاقتصارَ على ذكرهِ من غير تعرّض لمعالٍ له مما يدلُّ على أنَّ الَّلائقَ بحال المفتونينَ والمتوقع صدورُه عنهم هو الصَّبرُ لا غيرُ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ المرادُ بهم الرُّسلَ فيحصل به تسليتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فالمعنى جرتْ سُنَّتنا بموجب حكمتِنا على ابتلاءِ المُرسلينَ بأممِهم وبمناصبتهم لهم العداوةَ وإيذائهم لهم وأقاويلِهم الخارجةِ عم حُدودِ الإنصاف لنعلمَ صبرَكم. وقوله تعالى: { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } وعدٌ كريم للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالأجرِ الجزيلِ لصبرِه الجميلِ مع مزيدِ تشريفٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالالتفاتِ إلى اسمِ الرَّبِّ مُضافاً إلى ضميرِه صلى الله عليه وسلم.

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } شروعٌ في حكايةِ بعضٍ آخر من أقاويلِهم الباطلةِ وبـيانِ بُطلانِها إثرَ إبطالِ أباطيلهم السَّابقةِ. والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى: { { وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ } [سورة الفرقان, الآية 7] الخ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضَّمير للتَّنبـيهِ بما في حيِّز الصِّلة على أنَّ ما يُحكى عنهم من الشَّناعةِ بحيثُ لا يصدرُ عمَّن يعتقدُ المصيرَ إلى الله عزَّ وجلَّ. ولقاءُ الشَّيءِ عبارةٌ عن مصادفتهِ من غيرِ أنْ يمنعَ مانعٌ من إدراكِه بوجهٍ من الوجوهِ، والمرادُ بلقائِه تعالى إمَّا الرُّجوعُ إليه تعالى بالبعثِ والحشرِ أو لقاءُ حسابه تعالى كما في قوله تعالى: { { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ } [سورة الحاقة, الآية 20] وبعدم رجائِهم إيَّاه عدمُ توقُّعهم له أصلاً لإنكارِهم البعث والحساب بالكليِّة لا عدمُ أملِهم حسنَ اللقاءِ ولا عدمُ خوفِهم سوءَ اللقَّاءِ لأنَّ عدمَهما غيرُ مستلزمٍ لما هم عليه من العُتوِّ والاستكبار وإنكارِ البعثِ والحسابِ رأساً أي وقال الذَين لا يتوقعَّون الرَّجوعَ إلينا أو حسابَنا المؤدِّيَ إلى سُوءِ العذابِ الذي تستوجب. مقالتُهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } أي هلاَّ أُنزلوا علينا بطريق ليخبرونَا بصدقٍ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل: هَلاَّ أُنزلوا علينا الرِّسالةِ وهو الأنسب لقولِهم { أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } من حيثُ أنَّ كلا القولينِ ناشىءٌ عن غايةِ غُلوهم في المُكابرةِ والعُتوِّ حسبما يَعربُ عنه قولُه تعالى { لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ } أي في شأنِها حتَّى اجترأوا على التَّفوه بمثل هذه العظيمةِ الشَّنعاءِ { وَعَتَوْا } أي تجاوزُوا الحدَّ في الظُّلم والطُّغيانِ { عُتُوّاً كَبِيراً } بالغاً أقصَى غاياتَه حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسطِ الرَّسولِ والمَلك كما قالوا: { { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا ٱللَّهُ } [سورة البقرة, الآية 118] ولم يكتفُوا بما عاينوا من المعجزاتِ القاهرة التي تخرُّ لها صمُّ الجبالِ فذهبْوا في الاقتراح كلَّ مذهبٍ حتَّى منَّتهم أنفسُهم الخبـيثةُ أمانيَّ لا تكادُ ترنو إليها أحداقُ الأممِ ولا تمتدُّ إليها أعناقُ الهمم ولا ينالُها إلا أولُو العزائم الماضيةِ من الأنبـياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد استكبروا الآيةَ وفيه من الدِّلالةِ على غايةِ قُبح ما هُم عليه والإشعارِ بالتَّعجبِ من استكبارِهم وعُتوِّهم ما لا يخفى.