التفاسير

< >
عرض

وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً
٣٩
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
٤٠
-الفرقان

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَكُلاًّ } منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ. والمحذوفُ الذي عُوِّضَ عنه التَّنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ. فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التَّأثرِ من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين { ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ } أي بـينَّا له القصصَ العجيبةَ الزَّاجرةَ عمَّا هم عليه من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرَّسلِ { وَكُلاًّ } أي كلَّ واحدٍ منهم لا بعضَهم دُون بعضٍ { تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } عجيباً هائلاً لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلك ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هُم عليه من الكُفرِ والعُدوانِ. وأصلُ التَّتبـيرُ التَّفتيتُ. قال الزَّجَّاجُ: كلُّ شيءٍ كسرتَه وفتّتَه فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفُتاتِ الذَّهبِ والفِضَّةِ.

{ وَلَقَدْ أَتَوْا } جملةٌ مستأنفة مسوقة لبـيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها. وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها، أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ { عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى أُمْطِرَتْ } أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبـيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادةُ بقوله تعالى: { مَطَرَ ٱلسَّوْء } وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ، أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ إذِ المعنى أُعطيت أو وُلِّيتْ مطرَ السَّوءِ { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } توبـيخ لهم على تركهم التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه. والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرُون إليها فلم يكونُوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ، فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ الرُّؤيةِ معاً، وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها. وقوله تعالى { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبةِ وبـيانٌ لكون عدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبةً لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغاية من خلق العالمِ، وقد كُني عن ذلك بعدم رجاءِ النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل: بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بـينه وبـين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ. وإمَّا انتقالٌ من التَّوبـيخِ بما ذُكر من ترك التَّذكرِ إلى التَّوبـيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ.