التفاسير

< >
عرض

قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
٣٨
قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ
٣٩
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
٤٠
-النمل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ يَـاأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا } قالَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصَّلاة والسَّلام. يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام، قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لنا به من طاقةٌ، وبعثتْ إلى سُليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ فشخصتْ إليه في اثني عشرَ ألفاً قيل: تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبـياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سُليمانَ عليه السَّلامُ باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيمِ قدرتِه تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا. وتقيـيدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى: { قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدلُّ على عظمِ قُدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها. وقيلَ: لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ مالِها بغيرِ رِضَاها.

{ قَالَ عِفْرِيتٌ } أي ماردٌ خبـيثٌ { مّن ٱلْجِنّ } بـيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبـيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخراً { أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ } أي بعرشِها { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار. وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ ألبتةَ { وَإِنّى عَلَيْهِ } أي على الإتيانِ به { لَقَوِىٌّ } لا يثقلُ عليَّ حملُه { أَمِينٌ } لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه.

{ قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بـينَ القائلينِ، ومقاليهما وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ من كمال التباينِ، أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ. قيلَ هو آصِفُ بنُ بَرَخياً وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام، وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ به عليهم السَّلام، وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ، وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيءٍ وارتدادُه انضمامُهما ولكونِه أمراً طبـيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بـينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدةٌ كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عن الإخبارِ به وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عزَّ وجلَّ: { { أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [سورة الشعراء: الآية 63] ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل:

{ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ: { { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [سورة يوسف: الآية 31] للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببـيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حُذف لما ذُكر وللإيذانِ بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بـينَ الوعدِ به وبـين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً، وفي تقيـيدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بـينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيِه من الدِّلالةِ على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه { قَالَ } أيْ سليمانُ عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسِه من أنبـياِ الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه { هَـٰذَا } أي حضورُ العرشِ بـين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ: { مِن فَضْلِ رَبّي } أي تفضله عليَّ من غيرِ استحقاقٍ له من قِبلَي: { لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ } بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه { أَمْ أَكْفُرُ } بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البـينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويُستجلبُ به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ { وَمَن كَفَرَ } أيْ لم يشكُرْ { فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ } عن شُكرهِ { كَرِيمٌ } بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً.