التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
-العنكبوت

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ } أي بدلائلِه التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ الدَّالَّةِ على ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه فيدخلُ فيها النَّشأةُ الأُولى الدَّالَّة على تحقُّق البعثِ والآياتُ النَّاطقةُ به دُخولاً أولياً. وتخصيصُها بدلائلَ وحدانيتِه تعالى لا يناسبُ المقامَ { وَلِقَائِهِ } الذي تنطقُ به تلك الآياتُ { أُوْلَـٰئِكَ } الموصُوفون بما ذُكر مِن الكفر بآياتِه تعالى ولقائِه { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } أي يـيأسون منها يومَ القيامةِ. وصيغةُ الماضي للدِّلالة على تحقُّقِه أو يئسوا منها في الدُّنيا لإنكارِهم البعثَ والجزاءَ { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وفي تكرير اسمِ الإشارة وتكريرِ الإسناد وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالأليمِ من الدِّلالةِ على كمالِ فظاعةِ حالِهم ما لا يخفى، أي أولئك الموصُوفون بالكفر بآياتِ الله تعالى ولقائِه وباليأس من رحمتِه الممتازون بذلك عن سائر الكَفَرة لهم بسبب تلك الأوصافِ القبـيحةِ عذابٌ لا يُقَادر قَدرُه في الشِّدَّةِ والإيلامِ { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كان واسمُها قولُه تعالى: { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ } وقُرىء بالرَّفعِ على العكسِ. وقد مرَّ ما فيهِ في نظائِره، وليس المرادُ أنَّه لم يصدر عنُهم بصددِ الجوابِ عن حُججِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إلا هذه المقالةُ الشَّنيعةُ كما هو المتبادَرُ من ظاهر النَّظْمِ الكريمِ بل إنَّ ذلك هو الذي استقرَّ عليه جوابُهم بعد اللَّتيا والِّتي في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فقد صدرَ عنُهم من الخُرافاتِ والأباطيلِ ما لا يُحصى { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } الفاءُ فصيحةٌ أي فألقَوه في النَّار فأنجاهُ الله تعالى منها بأنْ جعلَها عليه الصَّلاة والسَّلام بَرداً وسلاماً حسبما بُـيِّن في مواضعَ أُخَرَ، وقد مرَّ في سورة الأنبـياءِ بـيانُ كيفَّيةِ إلقائِه عليه الصَّلاة والسَّلام فيها وإنجائِه بدعائه تعالى إيَّاه تفصيلاً. قيل لم ينتفعْ يومئذٍ بالنَّارِ في موضعٍ أصلاً { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي في إنجائِه منها { لآيَاتٍ } بـينةً عجيبةً هي حفظُه تعالى إيَّاه من حرِّها وإخمادِها في زمانٍ يسيرٍ وإنشاءُ رَوْضٍ في مكانِها { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وأما مَن عداهُم فهم عن اجتلائِها غافلون ومن الفوزِ بمغانمِ آثارِها محرومون.

{ وَقَالَ } أي إبراهيُم عليهِ السَّلامُ مُخاطباً لهم { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا } أي لتتوادُّوا بـينكم وتتواصلُوا لاجتماعِكم على عبادتِها وائتلافِكم، وثَاني مفعولَيْ اتخذتُم محذوفٌ أي أوثاناً آلهةً ويجوزُ أن يكونَ مودَّةَ هو المفعولَ بتقديرِ المُضافِ أو بتأويلِها بالمودودةِ أو بجعلها نفسَ المودَّةِ مُبالغةً أي اتخذتُم أوثاناً سببَ المودَّة بـينكم أو مودودةً أو نفسَ المودَّة. وقُرىء مودةً منونةً منصوبةً ناصبةَ الظَّرفِ وقُرئت بالرَّفعِ والإضافةِ على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي مودودةٌ أو نفسُ المودةِ أو سببُ مودةِ بـينكم. والجملةُ صفةٌ أوثاناً أو خبرُ إنَّ على أنَّ ما مصدريةٌ أو موصولهٌ قد حُذف عائدُها وهو المفعولُ الأولُ وقُرئت مرفوعةً منوَّنةً ومضافةً بفتحِ بـينَكم كما قُرىء { { لقد تقطَّع بـينكم } [سورة الأنعام: الآية 94] على أحدِ الوجهينِ وقُرىء إنمَّا مودةُ بـينكم والمعنى أنَّ اتخاذكم إيَّاها مودةَ بـينكم ليس إلاَّ في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتُم بـي ما فعلتُم لأجلِ مودَّتِكم لها انتصاراً منِّي كما يُنبىءُ عنه قولُه تعالى وانصُروا آلهتكم. { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } تنْقلَبُ الأمورُ ويتبدَّلُ التوادُّ تباغُضاً والتَّلاطف تلاعُناً حيث { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ } وهو العَبَدةُ { بِبَعْضِ } وهم الأوثانُ { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعنُ كلُّ فريقٍ منكم ومن الأوثانِ حيث يُنطقها الله تعالى الفريقَ الآخرَ { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي هي لُكم الذي تأوون إليه ولا ترجعونَ منه أبداً { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } يُخلِّصونكُم منها كما خلَّصني ربِّـي من النَّارِ التي ألقيتُموني فيها. وجمعَ النَّاصرَ لوقوعِه في مُقابلة الجمعِ أي ما لأحدٍ منكُم من ناصرٍ أصلاً.