التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
١٠٠
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ توبـيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة أن يُقال: لا تُطيعوا فريقاً الخ، كما أن تعميمَ التوبـيخِ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ فإنه رُوي أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جُلوساً يتحدثون فمرّ بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ ــ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ الحسَدِ للمسلمين ــ فغاظه ما رأى منهم من تآلُفِ القلوبِ واتحادِ الكلمةِ واجتماعِ الرأي بعد ما كان بـينهم ما كان من العداوة والشنَآنِ، فأمر شاباً يهودياً كان معه بأن يجلِسَ إليهم ويذكِّرَهم يوم بُعاثَ وكان ذلك يوماً عظيماً اقتتل فيه الحيانِ وكان الظفرُ فيه للأوس ويُنشِدُهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخرَ القومُ وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا: السلاحَ السلاحَ فاجتمع من القبـيلتين خلقٌ عظيم فعند ذلك جاءهم النبـي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فقال: "أتدْعون الجاهليةَ وأنا بـين أظهُرِكم بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية وألَّف بـينكم؟" فعلِموا أنها نزعةٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقَوُا السلاح واستغفروا وعانق بعضُهم بعضاً، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الإمامُ الواحديُّ: اصطفوا للقتال فنزلت الآيةُ إلى قوله تعالى: { { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران، الآية 103] فجاء النبـي صلى الله عليه وسلم حتى قام بـين الصفَّيْن فقرأهنّ ورفعَ صوتَه فلما سمعوا صوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنصَتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرَغ ألقَوا السلاح وعانق بعضُهم بعضاً وجعلوا يبكون. وقوله تعالى: { كَـٰفِرِينَ } إما مفعولٌ ثانٍ ليردُّوكم، على تضمين الردِّ معنى التصيـير كما في قوله: [الوافر]

رمى الحِدْثانُ نسوةَ آلِ سعدٍبمقدار سمَدْن له سُمودا
فردَّ شعورَهن السودَ بِـيضاًورد وجوهَهن البـيضَ سودا

أو حالٌ من مفعوله، والأول أدخَلُ في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفرِ المفروضِ بطريق القسر، وإيرادُ الظرفِ مع عدم الحاجةِ إليه ضرورةَ سبقِ الخطابِ بعنوان المؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبْقِ الإيمانِ مع توسيطه بـين المفعولين ـــ لإظهار كمالِ شناعةِ الكفرِ وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قُبحِه الصارفِ العاقلِ عن مباشرته أو لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل: بعد إيمانِكم الراسخِ وفيه من تثبـيت المؤمنين ما لا يخفى.